مختصر مفيد تركيا و«إسرائيل»: خيارات صعبة وأثمان صعبة
مع بدايات الحرب على سورية بدت تركيا و«إسرائيل» في موقع التفوق الاستراتيجي، وكان لكلّ منهما تطلّع ينافس الآخر على حجم الحصة المرتجاة من النصر في الحرب السورية، وبمثل ما كانت تركيا هي الحاضنة الرئيسة لقوى الحرب ومفاتيحها، كانت «إسرائيل» على ضفة تلاقي نتائج تحوّل في أمنها الاستراتيجي يضعها خارج الخطر لزمن طويل، وكلما كانت تعقيدات الحرب تقول إن فرص النصر صارت أبعد كانت السقوف تهبط للتوقعات والأهداف، حتى صار الشعور المشترك بالخطر من المسارات التي تبدو حتمية مع التطورات السياسية والعسكرية المحيطة بهذه الحرب، حيث لم يعُد لرهان النصرة المشترك بين تركيا و«إسرائيل» فرص التعويم السياسي والأمني، ولا للحرب الأميركية فرص، وبات سقف التسويات والحروب واحد وهو تعافي الدولة والجيش اللذين يقودهما الرئيس السوري الذي قال فيه قادة الحكومتين في أنقرة و«تل أبيب» أنه مصدر خطر داهم عليهما، والفارق أن في التسويات كلفة أعلى في السياسة، لكنها لا تغير الحصيلة، وفي الحرب كلفة أكبر في الميدان تثبت الحصيلة.
لم يعد مفيداً لأنقرة و«تل أبيب» المكابرة، ولا دفن الرأس في الرمال، وصار ملحّاً البحث بخيارات كبرى تلاقي المتغيرات، بالبحث عن سلالم نجاة من مخاطر دفع ثمن التعافي السوري وفاتورته. فتركيا تجد أن الخيار الكردي الذي يحظى برضى روسي وتشجيع أميركي، ينذر بمستقبل قاتم بالنسبة لتركيا، وتعلم أن مقايضة «إسرائيل» بما يرضيها للتوقف عن تشجيع واشنطن على دعم الجماعات الكردية يخفف من الخطر، لكنه لا يلغيه، وأن الشريك الطبيعي في رد هذا الخطر هي الدولة السورية وأن التصالح معها وحده يستنهض موقفاً روسياً وآخر إيرانياً يستبعدان خصوصية كردية ذات بعد أمني عسكري على الحدود، ومثل هذا الاحتمال يعني تسليماً تركياً بالهزيمة، بينما يعرف «الإسرائيليون» أن لا طريق للحرب يمكن أن تنتج لهم تغييراً في موازين الدرع الحاكمة التي صنعتها المقاومة وتعزّزت بمتغيرات سورية وإيران، وأن التموضع تحت حماية دولية على الحدود مع سورية ولبنان يخفف من وطأة الخطر، لكنه لا يلغيه، والتفكير بانسحابات دراماتيكية من الجولان ومزارع شبعا يمكن أن يسمح بالتقاط أنفاس، لكنه لا يسحب الفتيل المتفجر لقضية المقاومة في المنطقة وهو فلسطين.
الخيارات الصعبة تفرض الاستعداد لدفع أثمان صعبة، وها هي «إسرائيل» التي اطمأنت لصفقتها مع السعودية، حول جسر بري وخط أنابيب النفط عبر سيناء مروراً بجزيرتي تيران وصنافير تتلقى صفعة القضاء المصري بحكم يعيد النظر بقرار تسليم الجزيرتين من مصر للسعودية، وتصير طريق العودة للمربع الأصلي هي السالكة، مربع التعاون التركي «الإسرائيلي» لخلط أوراق في القضية الفلسطينية، فتتعهّد «إسرائيل» بتجرّع نصف كأس السم وتتولى تركيا تجرّع النصف الآخر، ويترك الشعب الفلسطيني ليدفع فاتورة ارتباط حركة حماس بتنظيم الأخوان، مرة بعبثها بالعلاقة الفلسطينية السورية ومرة بالعلاقة الإيرانية الفلسطينية، لتصل الأمور إلى العبث بالحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف.
يتقدّم المشروع التركي «الإسرائيلي» على معادلة تتولاها تركيا والسعودية لمصالحة فلسطينية تنتج شرعية تفاوضية تمتدّ لأجيال وتتولاها قيادة السلطة مقابل حصول حماس على مغانم حكم هادئ في غزة شرط القبول بوقف المقاومة، تحت شعار هدنة طويلة ومنح التفاوض فرصة الوصول للحلول، وهنا على «إسرائيل» تقديم موافقتها على رفع الحصار والسماح بالتنعم بشروط حياة طال انتظارها من سكان القطاع، لكن مقابل كلفة عالية هي القبول بأن دولة القطاع الحمساوية هي بديل فلسطين والمقاومة، على أن تقدّم تركيا والسعودية الضمانات بإمساك الأمن على الميناء والمطار والمعابر، وتمويل الدويلة الناشئة بما يجعل المشاريع التنموية مصدر عائدات مجزية ومغرية لامتصاص شحنات الغضب وتعقيم روح المقاومة.
ستتحمل تركيا مسؤولية تاريخية لشرعنة الدولة اليهودية بمثل ما تحمّلت من قبل صكوك استجلاب المستوطنين، وستتحمّل «إسرائيل» قبول دويلة حماس مقابل نزع أنياب المقاومة، والهدف المشترك هو التهيؤ لمواجهة مقبلة مع محور المقاومة يُراد لها أن تكون بلا عنوان فلسطين، وأن تجند شركاء كأوروبا وأميركا ودول إقليمية تتطلع للتطبيع مع «إسرائيل» والمواجهة مع إيران وفي مقدّمها السعودية.
لم يضع الأتراك و«الإسرائيليون» في حسابهم أن الانتفاضة التي تشهدها فلسطين هي عودة للذاكرة الفلسطينية الأصلية وعنوانها وحدة الشعب الفلسطيني ووحدة التراب، وأن عملية كتلك التي شهدتها «تل أبيب» تتكفّل بتقويض ما يبنون، وتستنهض إلى المواجهة مشروعَيْن لا يجمعهما شيء، هما أصل المواجهة في فلسطين، مشروع السكان الأصليين ومشروع المستوطنين المستجلَبين، وكل تزييف للصراع بينهما موقّت وعابر.!
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.