هل يمكن مواصلة الحرب في سورية بعد الزلزال البريطاني؟

ناصر قنديل

– للذين يريدون تصغير حجم الحدث البريطاني ورؤيته مجرد انعكاس لصراع تاريخي تصعد فيه النقاط وتهبط بين تيارين عريقين في المجتمع والسياسة البريطانية، ويرون مبالغة في القول إنّ الحدث البريطاني هو ثمرة لفشل الأحلام التي بنتها كتلة الترجيح البريطانية التي تمثل 5 من المصوّتين من قبل لصالح الانضمام إلى الاتحاد، وصوّتوا قبل أيام لصالح الانسحاب منه، وأنّ هذه الأحلام ارتبطت عضوياً بالرفاه والشعور بالقوة، عبر وراثة الاتحاد السوفياتي بما هو أبعد من ضمّ دول أوروبا الشرقية، وصولاً إلى الحصول على الغاز والنفط بأسعار رخيصة، وتحجيم لروسيا والصين، وسيطرة على مقدّرات الشرق الأوسط، انطلاقاً من تدعيم الثنائي السعودي «الإسرائيلي»، بكلّ أسباب القوة، في حروب تنخرط فيها أوروبا الموحدة، تحت إبط الحرب الإمبراطورية الأميركية، ما بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، يمكن طرح السؤال، هل تجري الصراعات السياسية والتحوّلات في نسب المصوّتين بين كتلتين متوازنتين في البنية البريطانية، في الفراغ، أم في قلب التفاعل مع السياسات وما ترسم من آمال وآحلام، والوقائع وما تحمل من خيبات وآلام، أو من مكاسب وإنجازات، فقضية اللاجئين التي تؤرق البريطانيين هي من الأعراض الجانبية لحروب الشرق الأوسط الفاشلة، واليد العاملة المنافسة المهاجرة من بلدان شرق أوروبا، هي ثمرة الفشل في تقييد النمو الصيني، والإخفاق بالفوز بحرب أوكرانيا لفرض الشروط على توريد الغاز الروسي وأسعاره، وفشل السيطرة على سورية لاستبدال هذا الغاز بالمصدر القطري.

– ليس من المبالغة أبداً القول إنّ نهضة وصحوة العقائد المستندة للأصول الدينية في العالم جاءت بحصيلة إخفاق العقيدتين الليبرالية والشيوعية في الوفاء بالوعود البراقة التي رسمتها كلّ منهما في مجال طوال عقود، وقد تنافستا على تقديم نموذجيهما خلال نصف قرن، فلم تنجح الشيوعية ببناء مجتمع رفاه وعدالة محوره الإنسان، ولا نجحت الليبرالية ببناء نموذج الحرية وحقوق الإنسان والنمو، سقطت الشيوعية في القوالب الجامدة المحنّطة على حساب كرامة وحرية الإنسان، وسقطت الليبرالية بحروبها الاستعمارية وما فيها من جرائم وارتكابات وتحالفات تفضح الخيانة المدوية لشعارات ووعود الديمقراطيات الغربية، وقيمة هذا المثال هو للقول إنّ الأفكار والعقائد والهويات ليست معطيات نهائية، بل هي أوراح وكيانات حية تتفاعل مع المتغيّرات، مع النجاح ومع الفشل، والوصول للقول إنّ ما جرى في بريطانيا، هو رأس جبل الجليد للتحوّلات التي سيشهدها العالم فكرياً وثقافياً، وبالتالي سياسياً بحصيلة سقوط مشروع نظام عالمي جديد، كانت أميركا قوته القائدة، والاتحاد الأوروبي طليعته المقاتلة على حدود روسيا والصين وفي قلب الشرق الأوسط، وانّ هذا النظام سقط مع سحب الأساطيل الأميركية التي جاءت إلى البحر المتوسط للحرب على سورية، وواصل مسيرة السقوط بالتفاهم على الملف النووي الإيراني، ووصلاً للفشل في أوكرانيا، وسيتواصل في حصاد الفشل، وتتواصل تردادات هذا الحصاد متغيّرات هيكلية ثقافية، وبنيوية اجتماعية، وستعيد شعوب كثيرة النظر بهوياتها وخياراتها وكياناتها، ومن توقع التفتت لكيانات الشرق قد يشهد هذا التفتت في الغرب، مع تحوّل الكيانات العملاقة كالاتحاد الأوروبي من نعمة إلى نقمة.

– بمعزل عن تحليل الأسباب، هل يستطيع أحد إنكار وجود تداعيات كبرى لهذا الزلزال الذي يعصف ببريطانيا، والذي سيرتب على الأقلّ وبأدنى الحدود، قدراً من الانعزال والانغلاق والابتعاد عن التورط والانخراط الحيوي في السياسة الدولية وصناعتها والاشتراك في حروبها، وتحمّل أكلاف هذه الحروب ومترتباتها، وفي المقدّمة أعباء اللاجئين، وهل يمكن إغفال أنّ بريطانيا المنشغلة بذاتها وترتيب بيتها الجديد، على قاعدة الخروج من الاتحاد الأوربي أمر سيكفي ليشغل الساسة بترتيب البيوت الداخلية لأحزابهم، وعقائدها وبرامجها، التي عاشت خلال نصف قرن ثقافياً على التفاعل الإيجابي أو السلبي مع معادلة فكرية سياسية اقتصادية اسمها عضوية الاتحاد الأوروبي، وهل يمكن في المقابل إخفاء درجة الانهماك الأوروبي وخصوصاً الألماني الفرنسي بكيفية التصرف مع التغيّر البريطاني ونتائجه على الدولتين الأهمّ في الاتحاد الأوروبي، والرأي العام فيهما وكيفية تلقيه لتردّدات الزلزال البريطاني، واستطراداً التأثير على فعالية الاتحاد وقدرته على الحركة في السياسة الخارجية وهو نفسه مطروح على بساط البحث، وهل يمكن القول إنّ الأمر سيّان بالنسبة للحركة الأميركية في العالم وخصوصاً في الشرق الأوسط، وبصورة أخصّ في حربه الأهمّ في سورية، التي شكل الأوروبيون وخصوصاً البريطانيين والفرنسيين والألمان شركاء مؤسّسون فيها، وبرسم مندرجات تأثيرها وتأثرها على وبالعلاقات مع روسيا وإيران، وبالتالي هل يمكن القول إنّ الأمر انتهى، وسيستمرّ كلّ شيء على ما كان عليه ووفقاً لما خطط له؟

– القلق السعودي و«الإسرائيلي» والتركي يكفي لإدراك أنّ متغيّراً كبيراً سيستهلك على الأقلّ الكثير من الاهتمام والوقت والجهد، على حساب التفرّغ لإدارة حروب الشرق الأوسط وتسوياته بإيقاع يرسم مستقبل خارطة علاقات مع روسيا وإيران، وأنّ الإنكفاء نحو الداخل سيكون سياسة أعوام مقبلة، بالنسبة للدول بعينها كفرنسا وألمانيا، حيث بدأ النقاش حول مبرّر الإنفاق على اتحاد يتفكك ويعجز عن التحوّل إلى قوة فاعلة في السياسة والاقتصاد، فتبدو فرنسا فرنسية أكثر، لكن تحت المظلة الأميركية لصناعة التسويات مع روسيا وإيران حول المشرق، الذي تعتبره فرصتها مع الغياب البريطاني، بالمعنيين السياسي والاقتصادي، بينما تميل ألمانيا لتكون أوروبية أكثر في فهم شخصيتها الألمانية، ولكن على قاعدة المزيد من التقرّب من روسيا الأوروبية، لثنائية تقود أوروبا جديدة، فيها مكان لفرنسا لكن القيادة فيها ألمانية روسية، وفيها تحقيق لوعود اقتصادية مجزية، ولمصادر سلسة لتدفق الطاقة، وهذا يعني بالبعدين الفرنسي والألماني، إصابة لمشاريع الحروب، لحساب مشاريع التسويات.

– واشنطن تراقب عن كثب وتحسب رغم انشغالها بانتخاباتها الرئاسية، لتقيس وتعرف ما إذا كانت تملك الطاقة الكافية لجرّ عربة التسويات في ظلّ عقبة الكوابح السعودية والتركية و«الإسرائيلية»، طالما أنها مع هؤلاء الحلفاء لم تنجح بامتلاك الطاقة اللازمة لخوض الحروب وفقاً لشروط الفوز بها، وطالما أنّ حروب الاستنزاف ليست سياسة دائمة، وهي تنتج اقتناعاً متصاعداً لدى روسيا وإيران بصرف النظر عن خطط التسويات والذهاب إلى خيارات الحسم المنفرد للحروب، وتنتج على ضفة تشكيلات «القاعدة» مزيداً من القدرة على توسيع نطاق حرب الاستنزاف لأبعد مما يريده الأميركيون لتطال دول الغرب وليس فقط روسيا وإيران وحلفاءهما.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى