فيلم الفنزويلي لورانسو فيغاس «من هناك»… حوار الممنوع والمقدّس

عبد الله الساورة

ثمة مخرجون يعرفون الطريق إلى حصد الجوائز السينمائية بمواضيع تدخل في خانة الممنوع والمقدس، وهناك مخرجون تنأى عنهم المهرجانات الدولية بجوائزها. تصدق هذه الحالة على المخرج الفنزويلي لورنسو فيغاس.

«من هناك»، فيلم فنزويلي من إخراج لورنسو فيغاس وبطولة ألفرد كاسترو، لويس سيلفا، جيريكو موتيا، كاترينا كاردوسو، إنتاج فنزويلي لسنة 2015 على مدى 93 دقيقة.

«أرماندو» أدّى دوره ألفردو كاسترو، رجل في منتصف العمر، يجلب شباناً صغاراً إلى منزله من خلال تقديم المال لهم. رجل لا يرغب في لمسهم، ولكن تكمن رغبته في رؤيتهم فقط انطلاقاً من مسافة معينة. يتابع هذا الرجل ذو الماضي المؤلم لقاءه الأول مع شاب ينتمي إلى عصابة يدعى «إيلدر» أدّى دوره الممثل الشاب لويس سيلفا. كان هذا اللقاء عاصفاً وعنيفاً. ويظل هذا الرجل الأعزب والوحيد مفتوناً بهذا المراهق الوسيم ذي المراس الصعب. بينما المراهق يهتم فقط بالمال، وتستمر هذه العلاقة على مسافة معينة وتنشأ علاقة حميمية غير متوقعة، لكن ماضي «أرماندو» المؤرق يعود ليلاحقه، ويظل كابوساً ثقيلاً يجثم فوق صدره.

من هنا تنطلق صدمة الكاتب والمخرج لورانسو فيغاس للمشاهد في أفق انتظار غير منتظر وخلق نوع من التشويق والكثير من الإرباك لدى المتلقي.

يجري سيناريو الفيلم في الأحياء الفقيرة والعنيفة والمشتعلة للعاصمة الفنزويلية كاركاس، وتكشف القصة عن العلاقة المعقدة بين رجلين في عالمين مختلفين. عالم من الفقر يوازيه عالم من الغنى والصراعات الطبقية والنفسية التي تسود بين المكانين وعوالمهما المختلفة كلياً.

«من هناك»، الفيلم المطول الأول لهذا المخرج الشاب، وهو عبارة عن دراما ممزوجة بعناصر الإثارة والتشويق، التي حصد من خلالها المخرج جائزة «الأسد الذهبي» في مهرجان فينيسيا في الدورة الأخيرة، إضافة إلى مشاركته في مهرجان سان سباستيان.

الغريب أن لجنة التحكيم في مهرجان فينيسيا الإيطالي منحت في السنوات الثلاث الأخيرة الجائزة الكبرى لأعمال أقل ما يقال عنها إنها متواضعة مثل «ساكرو غرا» 2013 ثم فيلم «حمامة تستريح صن وتتأمل في وجودها» 2014 ثم فيلم «من هناك» 2015 ما يطرح مجموعة من الأسئلة المتعلقة بنوعية الأفلام المنتقاة والرسائل المتضمنة فيها.

يبدأ فيلم «من هناك» بطريقة جيدة بمشاهد متعددة، حينما يلتقي بطلا الفيلم وهما من طبقتين مختلفتين في أحد شوارع العاصمة كاركاس، بالاعتماد على تصوير جيد، لاعباً بعمق تبئير الصورة، من خلال عدم وضوح بعض الصور في الخلفية، وهذه التقنية التي اعتمدها المخرج ستبقى طيلة الفيلم، وهي مفتاح لفهم تفاصيل مختلفة لعدد من مشاهد الفيلم، مع إيقاع مثالي يحكي معه المخرج ما يود حكيه بقليل من الحوارات وحضور كبير للصورة مع بعض الإيماءات والحركات والنظرات بين الشخصيتين المختلفتين.

المشكلة الرئيسة في الفيلم أنه لا يمكن تصديقه في بعض اللحظات التي يتلاعب فيها المخرج بالسرد الفيلمي، مدركين أن القصة التي تنمو داخل الفيلم صعبة جداً ولا تتلاءم كثيراً مع دراما الشخصيات، سواء مع ماضيهما المثقل أو حاضرهما الذي تحاصره الرغبة والفوارق الاجتماعية ونظرة المجتمع المبطنة حيال هذه العلاقة الشائكة والمعقدة.

يؤدّي ألفرد كاسترو «أرماندو» أداءً رصيناً من خلال رجل تتقاذفه الأهواء، ولكن لم يكن بالمستوى الرائع الذي بدا عليه في فيلم «النادي» 2015 مع صعوبة فهم بعض الشخصيات، نظراً إلى الحوارات المقلّة داخل الفيلم باستثناء الممثل المذكور. بينما يجسّد الممثل لويس سيلفا دور «إيلدر»، دور شاب ينحدر من طبقة فقيرة يشتغل في ورشة لإصلاح سيارات له علاقة غرامية بشابة في مثل عمره ويحلم بالحصول على أموال لشراء سيارة. شخصية غير مقنعة داخل الفيلم ولم تساهم الكتابة الفيلمية في تطوير هذه الشخصية، وظلت سطحية تترنح تحت الخبرة القليلة لهذا الممثل الشاب في مجال التمثيل والدراما عموماً.

طوال الفيلم هناك عدد من المنعرجات والتقلبات التي حاول المخرج التلاعب بها حتى يتجنب السقوط في نمطية الفيلم المنجز في الأميركيتين الوسطى والجنوبية بحكايات خطية مونوتونية.

النتيجة التي يقترحها المخرج وهي تحريض الآراء من أجل خلق نقاش عام حول قضايا المثلية، في ظل أوضاع وعلاقات معقدة نفسياً واجتماعياً. لقد أُنجزت أفلام عدّة حول ظاهرة المثلية الجنسية في الثلاث سنوات الأخيرة، ولكن يظهر فيلم «من هناك» كأفضل الإنتاجات السينمائية لهذه السنة 2016.. بطبيعة الحال له معجبوه ومنتقدوه على رغم التحفظ الكبير على هذه النوعية من الأفلام داخل العالم العربي والنظر إليها بأنها تثير الغرائز وتساهم في تفشي «الفاحشة والتشجيع على الفساد الأخلاقي»، إضافة إلى أن المخرج لورنسو فيغاس أظهر قدرة كبيرة في الإخراج وإدارة الممثلين، لكنه لم يكتب قصة متماسكة، على رغم أنه استطاع تصوير مشاهد رائعة في شوارع العاصمة كاركاس وما تحتويه هذه المشاهد من تناقضات صارخة بين مناظر البؤس والفقر والغنى في مجتمع يحلم بالاشتراكية والتوزيع العادل للثروة، على حدّ سواء.

يلاحَظ في الفيلم أنه مقل في الحوارات وظلت بعض الوضعيات فيه غامضة، فمن يبحثون عن فيلم مليء بالحركة فهذا الفيلم لا يناسبهم.

في المشهد الافتتاحي للفيلم، حيث يجلس «أرماندو» قرب المراهق «إيلدر» في الحافلة ويمنحه بعض المال بطريقة مستترة، نرى في الوضعية الثانية المراهق في منزل الرجل، هذا الأخير الذي يطالبه بخلع ملابسه وتبرم المراهق في دورة كاملة قبل أن يلبي الطلب على بعد مسافة معينة من دون لمس والاكتفاء بالنظر إلى الجسد، في إيحاء مستتر إلى جمالية ولذة النظرة.

في المرة الثانية التي يعود فيها الشاب اليافع إلى منزل «أرماندو»، لا يرغب في الخضوع للوضعية الأولى ويعمد إلى ضرب الرجل بتمثال من الخزف في وجهه.

من هنا يبدأ خلط في الحكاية وعدم تصديق أن المراهق ليس مثلياً، ولكنه يخضع لذلك رغبة في الحصول على المال، وأن الفقر هو الذي يدفعه لذلك. كأن المخرج الشاب يريد التأكيد على أن ما يدفع إلى هذه الممارسات هو الفقر، وأن من يقوم بها أشخاص ينتمون إلى طبقة بورجوازية، في إشارة إلى نوع الحياة المترفة التي يعيشها بطل الفيلم «أرماندو». ناهيك عن قتل والد «أرماندو» كوسيلة لتعزيز العلاقة بين الرجلين والدخول إلى عالم الإثارة الضرورية، بغية إضافة مزيد من الوهج على الحكاية.

ما يقال عن الفيلم إن المخرج تصيّد قصة وموضوعاً مربحين في المهرجانات الدولية الأوروبية، التي ترغب في هذه النوعية من الأفلام التي تبدو متعاطفة مع بعض الأقليات وما تعيشه من حرمان ومعاناة، وفتحت له أبواب الشهرة بالحصول على جائزة كبرى من أحد المهرجانات العتيقة كمهرجان البندقية.

عدد من المخرجين المتلهفين والطامحين ينجزون أفلاماً ضدّ رغباتهم، ولكن غاياتهم تسليط مزيد من الأضواء عليهم ولو على حساب قصة الفيلم والترويج لعلاقات تتخبط فيها مجتمعات عدّة، من بينها المجتمعات العربية، ولكنها محكومة بطوق من السرّية والتحفظ وعدم قدرة المخرج على تناولها بعمق، خوفاً من العاصفة التي تأتي على الأخضر واليابس ولم تكن في الحسبان!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى