مَن المسؤول عن انهيار الدولة وضياع الوطن؟
علي بدر الدين
نتغنّى في أنّ لبنان هو أول من صدّر الأبجدية، وأول من حفز على هجرة الأدمغة العلمية والفكرية والإعلامية من أبنائه الذين نجحوا وبرعوا وأبدعوا وبنوا إمبراطوريات على كلّ أرض وطأتها أقدامهم. ونفتخر بأنّ ما يقارب الخمسة عشر مليون لبناني أو متحدّر من أصول لبنانية ينتشرون في قارات العالم ويرفدون وطنهم الأمّ بالانتماء أو بالتبنّي بمليارات الدولارات سنوياً، وأنه من دون هذه الكتلة المالية لانطفأت شعلة لبنان وفقد مكانه على خارطة الدول التي تتصارع بلا هوادة بهدف مدّ نفوذها وإحكام سيطرتها وملحقاتها من التبعية والارتهان، وبعضها من أجل البقاء والحفاظ على مصالحها في خضمّ صراعات جارفة وحروب إلغائية مدمّرة والأمثلة البعيدة والقريبة كثيرة.
التغنّي والافتخار اللبنانيان مردودان إلى النظام السياسي الطائفي الفاسد وإلى الطبقات السياسية والعهود والحكومات المتعاقبة التي حافظت على هذا النظام وأمّنت ديمومته وتمسكت بأشرعته وجيّرته في السرّ وعلى المكشوف إلى المصالح الخاصة والطموحات الشخصية، وإنّ غلّفها المستفيدون بأقنعة وعناوين وشعارات وطنية وطائفية، أو بأنظمة وقوانين وتشريعات مستحدثة، لم يطبّق منها سوى ما يخدم استمرارية هذا النظام ومكوّناته السياسية والطائفية والمستفيدين منه قليلاً أو كثيراً.
هذا النظام المستبدّ الذي هو أصل البلاء شكل على الدوام ولا يزال مصدر الخوف والرعب لدى اللبنانيين وأفرز طبقات سياسية ورموزاً طائفية وحيتاناً من المال جعلت من لبنان ملعباً لها تتقاذف فيه مصالح اللبنانيين وتبني لنفسها أمجاداً وأبراجاً على حساب فقرائه والمعدمين فيه، وعندما تشعر بدنوّ سقوطها أو خسارتها تفجّر قنابلها الموقوتة وتفتعل حروباً ونزاعات وتستثير الغرائز وتفاقم الأزمات والمشكلات على تنوّعها، لأنّ لمصالحها الأولوية بل هي من الخطوط الحمر التي يمنع الاقتراب منها.
ما يعانيه لبنان منذ تكوّن هذا النظام أساسه انغماس هذه الطبقات في الفساد والرشى والسمسرات ونهب المال العام، وصناعة الأزمات وقمع الحريات ومصادرة الإرادات فضلاً عن انغماسها في لعبة الطوائف والمذاهب وصراع الأزقة والزواريب، والحروب العبثية التي تؤمّن لها الممرات الآمنة نحو مزيد من الثراء والسلطة والهيمنة المطلقة.
وقد نجح أهل النظام في الإمساك بزمام الأمور وفي إدخال مفاهيم ومصطلحات جاذبة وبراقة في الشكل، مزيّفة ومشوّهة في المضمون وهادفة إلى مزيد من التقهقر والتصحّر والجهل وتعميم ثقافة اللاانتماء واللاولاء للوطن بل للطائفة أو المذهب أو لأولياء النعمة الوزارية والنيابية والإدارية والتوظيفية والمالية والثراء الفاحش الذي جناه المقرّبون والأزلام والأتباع وشركاء الصفقات، وعلى عينك يا تاجر. وهي ليست مكافأة لهؤلاء على الجهد المبذول في خدمة الوطن والمواطن بل تقديراً لهم على مساهمتهم في سرقة أموال اللبنانيين وتعبهم وتضحياتهم وإنْ أوهموا هذا الشعب بأنهم يعملون لأجله وهي مقتبسة من لافتات الشوارع «نأسف لإزعاجكم»، و«نعمل لأجلكم»، في عملية نفاق مكشوف ووقح، لأنهم لا يعملون سوى لأنفسهم ولنهمهم إلى السلطة والمال ولتوريث الأولاد والأحفاد والأقربون بالمعروف، وهي قاعدة باتت معتمدة في تنظيم وإدارة التوريث في لبنان وقد تكون من القواعد التي لا استثناء فيها.
وبفضل أداء الطبقات السياسية والطائفية والمذهبية المتلوّنة والتي ظلّت أمينة ووفية للنظام الذي أنتجها تحوّل لبنان من دولة مصدّرة للطاقات والإبداعات والأدمغة والشباب إلى دولة مستوردة للأزمات التي يشهدها العالم والمنطقة، كما إلى جسر عبور آمن لتوجيه الرسائل المتبادلة بين المحاور والأحلاف وإلى استجلاب الصراعات والنزاعات التي تُخاض بأيادٍ لبنانية حازت ثقة المجتمع الدولي على خبراتها وتجاربها في زعزعة وطنها وإغراقه في قضايا وتعقيدات وأزمات وحروب وديون وصراعات مستمرة من دون أيّ أفق أو أمل للخروج من دهاليزها القاتلة والمدمّرة.
وقد تحوّل أيضاً بعض حكامه إلى موظفين برتب متفاوتة لدى المشيخات والسفارات المسموع والمطاع رأيها وتوجهاتها والتي تنفذ من دون اعتراض نفّذ ثم اعترض ، وتركت لبنان فريسة سهلة تتآكله مصالح الدول.
لبنان الذي كان غارقاً في الفوضى والفلتان ووهن المؤسسات والصراع على المصالح، جاء اتفاق الطائف ليزيد من مشكلاته وأزماته وهموم أبنائه ومعاناتهم وإفراز طبقة لم تحِد قيد أنملة عن النظام السياسي الطائفي وإنْ تغيّرت بعض العناوين والوجوه والأسماء والشعارات، ما استدعى اجتماع الدوحة لإعادة ترتيب الأوضاع وتهدئة النفوس من دون طائل، وفي حين بدأت الأزمات بالتكاثر والتراكم دفعت بالرئيس نبيه بري إلى طرح مبادرة عقد «دوحة ثانية مصغرة» علّها تعيد الأوضاع إلى الانتظام، وتساهم في حلحلة بعض العقد في السياسة والمصالح والأرقام والملفات الخلافية وما أكثرها. وخاصة أنّ لبنان في هذه المرحلة مطوّق بحبال وقيود تضغط على رقاب اللبنانيين وتكتم أنفاسهم من دون حراك أو رفع الصوت أو حتى التعبير بأنين خافت عن الوجع الذي يتآكلهم إما لضعف أو لخوف أو لانعدام القائد الجاذب الذي لا يُباع ولا يُشرى في أسواق النخاسة السياسية والطائفية والمصلحية، وإما لقوة الحاكم والقائد والزعيم والشيخ والأمير والبيك الذي قاد سفينة الولاء والانتماء له بجدارة واقتدار وصانها بقوة السلطة والمال والنفوذ من أية ثقوب قد تؤدّي بها إلى الغرق والموت المحتّم لربانها.
السؤال: ماذا أنتجت الطبقة السياسية منذ ما يقارب ربع قرن من حكمها للبنان ولشعبه غير الأزمات الاقتصادية المتواصلة وانهيار المؤسسات وتعميم الفساد، الدفاع المستميت عن المصالح والامتيازات وتوافق الكبار على توزيع الحصص والمغانم في المال والسلطة والإدارة بالعدل والقسطاس، واستمرار الفراغ في سدة رئاسة الجمهورية منذ أكثر من عامين وتعطيل مجلسَيْ النواب والحكومة وما يحصل فيهما من استقالات وزارية ونيابية تمثل قمة الاستهتار والدلع السياسي والطائفي والفشل في الاتفاق على قانون انتخاب وطني تمثيلي يكون بديلاً لقانون الستين الذي تحرص الطبقة الحاكمة على بقائه، لأنه علة وجودها ومالها وسلطاتها ونعيمها الذي تعيشه والفشل في الحوارات الموسّعة والثنائية والتي أساساً لم يكن المطلوب منها سوى تهدئة الاحتقان بانتظار الآتي من تجمّع الكبار الذي يضمّ أميركا وروسيا وإيران والسعودية، لأنهم يملكون العصا السحرية ليس لحلّ مشاكل لبنان بل في العالم فضلاً عن كثرة الملفات الخلافية بين مكوّنات هذه الطبقة تبدأ من النفايات وقد لا تنتهي عند سدّ جنة، ولكن لا أحد يسأل عن حقوق اللبنانيين الضائعة والمنهوبة من الكهرباء والمياه والطبابة والتعليم والوظائف والعيش الكريم.
هل ما يحصل هو مقدّمات لانهيار الدولة وضياع الوطن؟