شاعر الألم الثائر الغاضب

جورج كعدي

أنجبت فلسطين أكثر من شاعر كبير. الجرح الفلسطينيّ معطاء، يزهر شعراً بلون الدم والألم، بلون الثورة والغضب، بلون الشجن والحنين.

الشاعر الفلسطيني سميح القاسم انطفأ جسده المتألم أمس من مرض عضال لازمه سنوات، وبقي صوته الثائر الغاضب الحيّ صارخاً:

تقدّموا

تقدّموا

كلّ سماء فوقكم جهنّم

وكلّ أرض تحتكم جهنم

تقدّموا

يموت منّا الطفل والشيخ

ولا يستسلم

وتسقط الأمّ على أبنائها القتلى

ولا تستسلم

تقدّموا

تقدّموا

بناقلات جندكم

وراجمات حقدكم

وهدّدوا

وشرّدوا

ويتّموا

وهدّموا

لن تكسروا أعماقنا

لن تهزموا أشواقنا

نحن القضاء المبرم

تقدّموا

تقدّموا…

تزامن غياب سميح القاسم، الشاعر الثائر الجميل، مع مأساة غزّة وأوجاعها الكثيرة، مع تمزّق أجساد أطفالها النحيلة أشلاء بآلة الوحش «الإسرائيليّ» فكيف لجسد الشاعر الذي أنهكه المرض أن يقاوم ألماً مضاعفاً، ذاتيّاً ووطنيّاً؟ وكيف لروح الشاعر الرهيفة أن تحتمل هذا الوجع المزدوج فلا تنوء به وتسقط تحت ثقله؟

سميح القاسم، الشاعر الرقيق، الشفيف، رغم غضب وثورة وصدى وجدان يتردّد في شعره مأسويّاً متألماً منتفضاً حائراً، مثّل مع محمود درويش، رفيق الشعر والثورة والقضيّة، نبض الفعل الفلسطينيّ المقاوم، وكانا توأمي إبداع وصداقة ونضال لا يستكين شعراً ونثراً ومسرحاً وأغنية ثوريّة منتقاة ممّا فاض به الوجدان الكليم النازف دماً وحزناً حارقاً على شهداء وطن يُذبحون يومياً على أرض وطن سليب تسقيه دموع الأمّهات والآباء على الأبناء، أو دموع الأبناء الذين أضحوا أيتاماً على ذويهم… فدم الشهادة الفلسطينيّ فاض أنهاراً وما عادت تسعه قصيدة ولا توقف فيضه كلمات ثورة وغضب.

لم ينعم سميح القاسم بـ»ترف» الشعر. كتبه بالوجع والاختبار والسجن والنفي والاعتقال والإقامة الجبرية والصنوف جميعاً التي يتقنها الصهيونيّ الوحش، مغتصب الأرض والتاريخ. سيرة القاسم غنيّة، مثمرة، متعدّدة المجال شعراً وأدباً ومسرحاً وقصة ومقالة وتأسيساً لصحف وترؤّساً لها. ترجم شعره وأدبه إلى أكثر من لغة عالميّة، مثل الإنكليزية والفرنسية والألمانية والروسية والإسبانية والإيطالية والفارسية وحتى اليابانية، ونال العديد من الجوائز العربية والعالمية.

بغياب سميح القاسم تُطوى صفحة مجيدة في تاريخ الشعر العربي، إنّما خاصة في تاريخ الشعر الفلسطينيّ الوطنيّ المقاوم الثائر المناضل الإنسانيّ. لكنّ صوت سميح القاسم لن تطويه الأزمنة، بل يظلّ صداه حاضراً متردّداً، حيّاً في الوجدان الوطني والقوميّ، حاضّاً على الثورة والنضال، حتى تشرق شمس النصر وتعود فلسطين إلى أهلها ويصدح صوت سميح القاسم ملء الأسماع والأفئدة.

سميح القاسم، مثل حبيب عمره محمود درويش، حيّ في ضمير الأمّة وشعرها وثقافتها وإبداعها وأغنيتها… إلى الأبد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى