فُرَص حماس
ناثان ثرال
لم تسع لا «إسرائيل» ولا حماس إلى الحرب الراهنة في غزة. لكن لم يكن ثمة شك لدى أيّ منهما بأنّ مواجهة جديدة تلوح في الأفق. لم يتمّ تنفيذ وقف إطلاق النار الذي أنهى تبادلاً لإطلاق الصواريخ من غزة وعمليات قصف جوي من «إسرائيل»، تم التوصل إليه في 21 تشرين الثاني 2012. نص الاتفاق على أنّ توقف جميع الفصائل الفلسطينية في غزة الأعمال الحربية ضدّ «إسرائيل»، وأن توقف «إسرائيل» هجماتها البرية والبحرية والجوية على غزة ـ بما في ذلك «استهداف الأفراد» الاغتيالات التي تتمّ عادة بواسطة صواريخ تطلقها طائرات من دون طيار ـ وأن حصار غزة سينتهي بشكل جوهري نتيجة «فتح «إسرائيل» للمعابر وتسهيل حركة الأشخاص ونقل البضائع، والامتناع عن تقييد حرية حركة السكان واستهداف سكان المناطق الحدودية». ولاحظت فقرة إضافية أنّ «المسائل الأخرى ستتمّ معالجتها حسب الطلب»، في إشارة إلى التزامات خاصة عبّرت عنها مصر والولايات المتحدة بالمساعدة في إحباط عمليات تهريب الأسلحة إلى غزة، رغم أنّ حماس أنكرت هذا التفسير للفقرة.
خلال الأشهر الثلاثة التي تلت وقف إطلاق النار، سجّل جهاز الأمن الداخلي «الإسرائيلي»، «شين بيت»، هجوماً واحداً تمثّل في قذيفتي هاون أُطلقتا من قطاع غزة في كانون الأول 2012. أبدى المسؤولون «الإسرائيليون» سرورهم بذلك. لكنهم أقنعوا أنفسهم بأنّ الهدوء على حدود قطاع غزة كان بشكل أساسي نتيجة الردع، ولأنّ للفلسطينيين مصلحة في ذلك. ولهذا لم تجد «إسرائيل» أن لديها ما يكفي من الحوافز للالتزام بجانبها من الاتفاق. في الأشهر الثلاثة التي تلت وقف إطلاق النار، قامت قواتها بتوغلات منتظمة في قطاع غزة، وضايقت المزارعين الفلسطينيّين وأولئك الذين كانوا يجمعون الخردة والأنقاض عبر الحدود، وأطلقت النار على قوارب الصيد بحيث منعت صيادي السمك الفلسطينيين من الوصول إلى معظم مياه قطاع غزة.
لم يتمّ رفع الحصار. وكانت المعابر تُغلق بشكل متكرّر، وتمّت إقامة ما يُسمّى مناطق عازلة، وهي أراضٍ زراعية لا يستطيع مزارعو قطاع غزة دخولها من دون أن يتمّ إطلاق النار عليهم. وتراجعت الواردات، ومُنعت الصادرات، وسُمِح لعدد أقلّ من الغزاويين بالدخول إلى «إسرائيل» والضفة الغربية.
كانت «إسرائيل» قد التزمت بعقد مفاوضات غير مباشرة مع حماس حول تنفيذ وقف إطلاق النار، لكنها أجّلت تلك المفاوضات بشكل متكرّر، في البداية لأنها أرادت أن ترى ما إذا كانت حماس ستلتزم بجانبها من الاتفاق، ثمّ لأنه لم يكن في وسع نتنياهو تقديم المزيد من التنازلات لحماس في الأسابيع التي سبقت انتخابات كانون الثاني 2013، ثمّ لأنّ ائتلافاً حكومياً «إسرائيلياً» كان قيد التشكّل وكان بحاجة إلى الوقت لترتيب أموره. وفي المحصّلة، لم يتمّ إجراء المحادثات. كان الدرس واضحاً بالنسبة لحماس ومفاده أنه حتى لو تمّ التوصل إلى اتفاق بوساطة أمريكية ومصرية، فإنه كان في وسع «إسرائيل» عدم الالتزام به.
رغم ذلك، استمرّت حماس بشكل عام بالمحافظة على وقف إطلاق النار بشكل يرضي «إسرائيل». أنشأت قوات شرطة جديدة مهمتها اعتقال الفلسطينيين الذين حاولوا إطلاق الصواريخ. في عام 2013، كان عدد الصواريخ التي أُطلقت من قطاع غزة أقلّ منها في أيّ عام آخر منذ عام 2003، بعيد إطلاق أول قذائف بدائية عبر الحدود. كانت حماس بحاجة إلى الوقت لإعادة بناء ترسانتها، وتحصين دفاعاتها والتحضير للمعركة القادمة، قبل أن تسعى مرة أخرى إلى رفع الحصار عن قطاع غزة بقوة السلاح. إلاّ أنها كانت تأمل أيضاً بأنّ مصر ستنفتح على قطاع غزة وتنهي بذلك سنوات حاولت خلالها مصر و»إسرائيل» إلقاء المسؤولية عن القطاع وسكانه الفقراء على بعضهما البعض وجعل تخفيف الحصار من قبل «إسرائيل» أقلّ أهمية.
في تموز 2013، أطاح الانقلاب الذي قاده المشير عبد الفتاح السيسي في القاهرة بآمال حماس. حمّل نظامه العسكري الرئيس المخلوع محمد مرسي، العضو في الإخوان المسلمين، وحماس، الفرع الفلسطيني للمنظمة، مسؤولية جميع مشاكل مصر. وتمّ حظر كلا المنظمتين. وُجِّه اتهام رسمي لمرسي بالتآمر مع حماس لزعزعة استقرار البلاد. وحُكِم على زعيم حركة الإخوان المسلمين ومئات من أنصار مرسي بالإعدام. واستعمل الجيش المصري خطاباً تهديدياً متصاعداً ضدّ حماس، التي خشيت من أنّ مصر و«إسرائيل» والسلطة الفلسطينية بقيادة فتح ستستغلّ ضعفها لشنّ حملة عسكرية منسّقة. فُرِضَ حظر على سفر مسؤولي حماس. وتمّ تقليص عدد الغزاويين الذين يسمح لهم بدخول مصر إلى نسبة ضئيلة مما كان يُسمح لهم بالدخول قبل الانقلاب. أما مئات الأنفاق التي كان يتمّ نقل السلع من مصر إلى قطاع غزة عبرها فقد أُغلقت جميعها تقريباً. كانت حماس تستعمل الضرائب المفروضة على تلك البضائع لدفع رواتب أكثر من 40000 موظف في الخدمة المدنية في قطاع غزة.
حليفا حماس السابقان وداعماها الرئيسيان، إيران وسورية، ما كانتا لتساعداها ما لم تتخلّ عن الإخوان المسلمين … وكان لحلفاء حماس الآخرين مشاكلهم الخاصة فقد كانت تركيا منشغلة باضطراباتها الداخلية أما قطر فكانت تتعرّض للضغوط من جيرانها لتقليص دعمها لمنظمة الإخوان المسلمين، التي تعتبرها الأنظمة الملكية الأخرى في الخليج التهديد السياسي الرئيسي لها. السعودية أعلنت الإخوان منظمة إرهابية واستمرّت دول الخليج الأخرى بقمعها. في الضفة الغربية، لم يكن بوسع حماس رفع علم، أو عقد اجتماع، أو إلقاء خطاب من دون مواجهة احتمال الاعتقال من قبل «إسرائيل» أو قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية.
مع تصاعد الضغوط وعدم وجود حليف قوي يلجأ إليه، كان تدهور قطاع غزة سريعاً. رغم أنّ «إسرائيل» ردّت على إغلاق مصر للأنفاق وعبور المشاة بزيادة ما تقدمه من بضائع وتصريحات خروج، فإنها لم تُحدِث تغييراً جوهرياً في سياستها. زادت انقطاعات الكهرباء، حيث كانت تستمرّ بين 12 و18 ساعة يومياً. واضطر الأشخاص الذين يحتاجون المعالجة في المستشفيات المصرية إلى دفع رشى بلغت 3000 دولار لعبور الحدود عندما كانت تُفتح أحياناً ليوم واحد. وأدّى نقص الوقود إلى امتداد طوابير طويلة على محطات الوقود، ونشوب حالات من العراك على مضخات البنزين. تراكمت النفايات في الشوارع لأنه لم يعد لدى الحكومة الوقود اللازم لشاحنات جمع القمامة. في كانون الأول أُغلقت محطة الصرف الصحي وتدفقت مياه المجاري في الشوارع. تفاقمت أزمة المياه، حيث بات أكثر من 90 في المئة من المياه الجوفية في قطاع غزة ملوثاً.
أربعة مخارج محتملة
بعد أن أصبح من الواضح أنّ الاضطرابات في مصر لن تفضي للإطاحة بالسيسي أو إلى عودة الإخوان، رأت حماس أربعة مخارج محتملة لها من ذلك الوضع. تمثّل الأول بالتصالح مع إيران ودفع الثمن غير المقبول وهو التخلي عن إخوان سورية وإضعاف الدعم الذي تحظى به حماس بين الفلسطينيين ومعظم المسلمين السنة في كلّ مكان من العالم. وكان المخرج الثاني فرض ضرائب جديدة في قطاع غزة لكن مثل تلك الضرائب ما كانت لتعوّض الخسائر في الإيرادات التي تحصل عليها من الأنفاق، كما أنها تخاطر بإثارة المعارضة لحكم حماس. وكان الخيار الثالث إطلاق الصواريخ على «إسرائيل» على أمل الحصول على وقف إطلاق نار جديد يحقق تحسّناً في الظروف في قطاع غزة. هذا الاحتمال أقلق المسؤولين الأمريكيّين، حيث إنه سيقوّض القيادة الفلسطينية المتعاونة في رام الله ومحادثات السلام «الإسرائيلية» الفلسطينية التي كان قد أطلقها جون كيري في نفس الشهر الذي حدث فيه انقلاب السيسي. إلاّ أنّ حماس كانت تشعر بقدر أكبر من الهشاشة خصوصاً بسبب الدور المحتمل للسيسي في أي صراع جديد بين قطاع غزة و«إسرائيل»، وبالتالي كانت تُحجم عن المضيّ في هذا المسار. كانت متأكدة من أنّ محادثات السلام ستفشل لوحدها. أما الخيار الأخير، والذي اختارته حماس في النهاية، فكان تسليم المسؤولية عن حكم قطاع غزة لأشخاص تعيّنهم القيادة الفلسطينية التي تسيطر عليها فتح في رام الله، رغم أنها هزمتها في انتخابات عام 2006.
دفعت حماس ثمناً باهظاً، حيث قبلت تقريباً جميع مطالب فتح. لم تضمّ الحكومة الجديدة التي شكّلتها السلطة الفلسطينية عضواً واحداً في حماس أو حليفاً لها، وظلّت شخصياتها الرفيعة من دون تغيير. وافقت حماس على السماح للسلطة الفلسطينية بإعادة بضعة آلاف من قواتها الأمنية إلى قطاع غزة، ووضع حراسها على الحدود والمعابر الحدودية، من دون أن يكون هناك مواقع تبادلية لحماس في أجهزة الأمن في الضفة الغربية. الأكثر أهمية من ذلك هو أنّ الحكومة قالت إنها ستلتزم بالشروط الثلاثة للمساعدات الغربية التي طالما طالبت بها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون والتي تتمثل في: وقف العنف، والالتزام بالاتفاقيات السابقة والاعتراف بـ«إسرائيل». رغم أنّ الاتفاق نصّ على امتناع حكومة السلطة الفلسطينية عن ممارسة السياسة، فإنّ عباس قال إنها ستنفذ برنامجها السياسي. أما حماس فبالكاد احتجّت على ذلك.
مسعى لتبرير الاتفاق
وُقّعت الاتفاقية في 23 نيسان بعد أن كانت محادثات السلام التي جرت بوساطة من جون كيري قد انهارت إذ لو أنّ المحادثات كانت تحقق تقدماً، لكانت الولايات المتحدة قد فعلت ما بوسعها لمنع ذلك التحرّك. إلاّ أنّ إدارة أوباما شعرت بخيبة أمل حيال المواقف التي اتخذتها «إسرائيل» خلال المفاوضات، وحمّلتها المسؤولية علناً عن حصتها في إفشال المفاوضات. ساعد الإحباط على دفع الولايات المتحدة إلى الاعتراف بالحكومة الفلسطينية الجديدة رغم الاعتراضات «الإسرائيلية». لكن ذلك كان أقصى ما كانت الولايات المتحدة مستعدة لفعله. وراء الكواليس، كانت تضغط على عباس لتجنّب مصالحة حقيقية بين حماس وفتح. سعت حماس إلى إعادة تفعيل المجلس التشريعي الفلسطيني الذي كان في سبات منذ مدة طويلة ليمارس دوره في الرقابة على الحكومة الجديدة. إلاّ أنّ غالبية أعضاء المجلس التشريعي كانوا من حماس، وحذّرت الولايات المتحدة عباس بأنها ستوقف الدعم المالي والسياسي للحكومة الجديدة إذا اجتمع المجلس التشريعي.
لم يكن اتفاق المصالحة يحظى بالشعبية داخل حماس. من القواعد إلى الحلقة الثانية في قيادة حماس، كان أعضاؤها يعتقدون أن الاتفاق سيتسبّب بمشاكل هائلة. قضى موسى أبو مرزوق، أحد كبار قادة المكتب السياسي، أسابيع في قطاع غزة يجتمع مع كوادر حماس ويصغي لمخاوفهم ويحاول إقناعهم بحكمة الاتفاق. أما مقاتلو الحركة فكانوا قلقين من أنّ عناصر أمن فتح سينتقمون للقتلى الذين سقطوا في القتال الذي اندلع بين حماس وفتح في عامي 2006 و2007، وأنّ ذلك سيدشّن حرباً أهلية جديدة. أراد مسؤولو حماس ضمانات بأنّ السلطة الفلسطينية لن توسّع تعاونها مع «إسرائيل» ضدّ حماس في الضفة الغربية ليشمل قطاع غزة. وشعر موظفو الحكومة، والآلاف منهم ليسوا أعضاء في حماس، من أنهم سيُفصلون من عملهم أو سينقلون إلى مراتب أدنى أو سيتوقف دفع رواتبهم. آخرون قالوا إنّ حماس كانت قد تخلّت عن كلّ شيء من دون ضمانة بأنّ فتح ستفي بالتزاماتها. من بين المبرّرات التي ساقها قادة حماس لتوقيع الاتفاق هو أنه كان سيسمح للحركة بالتركيز على مهمتها الأصلية المتمثلة في المقاومة العسكرية ضدّ «إسرائيل».
تأكدت مخاوف نشطاء حماس بعد تشكيل الحكومة. بنود الاتفاق لم تكن فقط لغير صالح حماس بل إنها أيضاً لم تُنفَّذ. الشروط الأساسية للاتفاق، المتمثلة في دفع رواتب الموظفين الحكوميين الذين يديرون قطاع غزة وفتح المعبر مع مصر، لم تتحقق. كان الغزاويون قد أُخبروا لسنوات بأنّ سبب بؤسهم يتمثل في حكم حماس. الآن وقد انتهى حكمها، فإنّ أحوالهم باتت أسوأ.
في 12 حزيران، وبعد عشرة أيام من تشكيل الحكومة الجديدة، غَيَّرَ حدث غير متوقّع بشكل جذري حظوظ حماس. اختُطِف ثلاثة من طلاب المدارس الدينية في الضفة الغربية وقُتلوا. عندما تمّ العثور على جثثهم، اختطفت مجموعة من اليهود «الإسرائيليين» فلسطينياً يبلغ من العمر 16 سنة خارج منزله في القدس الشرقية، رشوا عليه البنزين وأحرقوه حياً. اندلعت الاحتجاجات في أوساط الفلسطينيين في القدس، والنقب والجليل، بينما ظلّت الضفة الغربية هادئة نسبياً. حمّلت «إسرائيل» حماس المسؤولية عن قتل طلاب المدارس الدينية، رغم أن عدة مسؤولين أمنيين «إسرائيليين» قالوا إن منفّذي العملية لم يفعلوا ذلك بناء على أوامر من جهات عليا.
في سياق بحثها عن منفذي العملية، نفّذت «إسرائيل» أكبر حملة تشنها على حماس في الضفة الغربية منذ الانتفاضة الثانية، فأغلقت مكاتبها واعتقلت المئات من أعضائها على جميع المستويات. أنكرت حماس مسؤوليتها عن عملية الاختطاف وقالت إن اتهامات «إسرائيل» ما هي إلاّ ذريعة لشن عدوان جديد عليها. بين أولئك الذين اعتُقلوا كان هناك أكثر من 50 من الأسرى الأمنيين البالغ عددهم 1027 أسيراً الذين أطلقت «إسرائيل» سراحهم عام 2011 مقابل الجندي جلعاد شاليط الذي كانت تحتفظ به حماس. رأت حماس في الاعتقالات انتهاكاً آخر لاتفاق شاليط، الذي حدد الشروط التي كان يمكن بموجبها إعادة اعتقال الأسرى واحتوى على التزامات لم تف بها «إسرائيل» بتحسين ظروف الأسرى الفلسطينيين الآخرين وحقوق الزيارة التي يتمتعون بها. عملت القيادة الفلسطينية في رام الله بشكل وثيق مع «إسرائيل» لإلقاء القبض على المقاتلين، وفقدت مصداقيتها بشكل غير مسبوق بين أنصارها الذين كان العديد منهم يعتقدون بأن خطف «إسرائيليين» أثبت أنه الوسيلة الفعالة الوحيدة لإطلاق سراح الأسرى الذين يُعتبرون على نطاق واسع أبطالاً قوميين. في العديد من مدن الضفة الغربية، احتج السكان ضدّ التعاون الأمني الذي تقوم به السلطة الفلسطينية مع «إسرائيل». وزير سابق للشؤون الدينية تربطه صلات وثيقة بعباس ذهب مع حراسه الشخصيين إلى المسجد الأقصى. هاجمهم المصلّون وضربوهم بحيث توجّب نقلهم إلى المستشفى. عندما أُرسل مبعوث من قبل عباس لزيارة أسرة الفتى الفلسطيني الذي قُتل لتقديم العزاء، قوبل بالصراخ وأُبعد عن المكان.
مع انتشار الاحتجاجات في «إسرائيل» والقدس، بدأ المقاتلون في قطاع غزة من فصائل غير حماس بإطلاق الصواريخ وقذائف الهاون تضامناً معهم. عند شعور قادة حماس بهشاشة وضع «إسرائيل» وضعف القيادة في رام الله، دعوا إلى تصعيد الاحتجاجات لتصل إلى انتفاضة ثالثة. عندما ارتفعت وتيرة إطلاق الصواريخ، وجدوا أنفسهم منجرّين إلى مواجهة جديدة، حيث لم يكن بوسعهم أن يظهروا بمظهر من يقمع الهجمات الصاروخية بينما يدعون إلى انتفاضة جماهيرية. بلغت العمليات الانتقامية «الإسرائيلية» أوجها في 6 تموز عندما قصفت وقتلت 7 من مقاتلي حماس، وهو العدد الأكبر من الخسائر التي لحقت بالمجموعة خلال عدة أشهر. في اليوم التالي بدأت حماس بالاضطلاع بمسؤولية إطلاق الصواريخ. عندها أعلنت «إسرائيل» عملية «الجرف الصامد».
بالنسبة لحماس، لم يكن الخيار بين السلام والحرب بقدر ما كان بين الاختناق البطيء وبين حرب يمكن أن تتيح فرصة، ولو ضئيلة، لتخفيف حدة الحصار. إنها ترى نفسها في معركة من أجل البقاء. إن مستقبلها في قطاع غزة يعتمد على حصيلة هذه الحرب. كحال «إسرائيل»، فقد كانت حذرة في وضعها لأهداف محدودة، أهدافاً يتعاطف معها جزء كبير من المجتمع الدولي. وكان الهدف الرئيسي هو جعل «إسرائيل» تلتزم بالاتفاقيات الثلاث السابقة: صفقة تبادل الأسرى مع شاليط، بما في ذلك إطلاق سراح الأسرى الذين أعيد اعتقالهم ووقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في تشرين الثاني 2012، والذي يدعو لإنهاء حصار غزة واتفاق المصالحة المُوقَّع في نيسان 2014، الذي من شأنه أن يسمح للحكومة الفلسطينية بدفع الرواتب في قطاع غزة، ووضع الموظفين على حدودها، وتلقّي مواد البناء التي هناك حاجة ماسة إليها وفتح معابر المشاة مع مصر.
هذه ليست أهدافاً غير واقعية، وثمة علامات متزايدة على أن لدى حماس فرصة جيدة لتحقيق بعضها. لقد قال باراك أوباما وجون كيري إنهما يعتقدان أن وقف إطلاق النار ينبغي أن يستند إلى اتفاق تشرين الثاني 2012. كما أن الولايات المتحدة غيّرت موقفها حيال دفع الرواتب، واقترحت في مسودة إطار لوقف إطلاق النار قُدِّم إلى «إسرائيل» في 25 تموز أن يتم تحويل الأموال لموظفي قطاع غزة. طوال فترة الحرب، قررت «إسرائيل» أن بوسعها حل مشكلة قطاع غزة بمساعدة الحكومة الجديدة في رام الله التي كانت قد قاطعتها رسمياً. وزير الدفاع «الإسرائيلي» قال إنه يأمل بأن وقف إطلاق النار الجديد سيضع قوات أمن الحكومة الجديدة على المعابر الحدودية لقطاع غزة. لقد بدأ نتنياهو بتخفيف لهجته حيال عباس. مع اقتراب نهاية الأسبوع الثالث من القتال، غضّت «إسرائيل» والولايات المتحدة النظر بهدوء عندما قامت الحكومة الفلسطينية بدفع رواتب جميع الموظفين في قطاع غزة للمرة الأولى. وقد بدأ مسؤولون «إسرائيليون» من سائر أجزاء الطيف السياسي بالإقرار في مجالسهم الخاصة بأن السياسة السابقة حيال قطاع غزة كانت خاطئة. جميع الأطراف الضالعة في محاولة التوصّل إلى وقف لإطلاق النار تتوقع ترتيبات بعد الحرب تعزز فعلياً من قوة الحكومة الفلسطينية الجديدة ودورها في قطاع غزة ـ وبالتالي قوة قطاع غزة نفسه.
إن تحقيق إطلاق سراح الأسرى الذين أعيد اعتقالهم سيكون أكثر صعوبة. لكن إذا استمرت الحرب لمدة أطول وأصبح التوغل البري العميق أكثر احتمالاً، فإن فرص حماس في خطف جندي «إسرائيلي» ستزداد. لقد قامت بما لا يقل عن 4 محاولات حتى الآن وكان من الممكن أن تنجح في اثنتين منها. تنكر «إسرائيل» أن المحاولة الأولى كانت ناجحة، ومع ذهاب هذه المقالة للطباعة، كانت تبحث عن الجندي الثاني المفقود. لا شيء من شأنه أن يقوّض سلطة قيادة رام الله أكثر من صفقة تبادل جديدة للأسرى مع حماس، حتى لو كانت على نطاق أضيق من اتفاق شاليط. عندما أعلنت حماس أنها كانت قد اختطفت جندياً في 20 تموز، اندفعت الحشود إلى شوارع قطاع غزة، والقدس والضفة الغربية، وأُطلقت الألعاب النارية ووُزعت الحلوى، مع تجدد الآمال بأن أصدقاءهم وأقاربهم في السجون «الإسرائيلية» سيطلق سراحهم قريباً.
لقد انتشرت الاحتجاجات تضامناً مع قطاع غزة، وكان عدد أعلام حماس أكبر من عدد أعلام فتح في تظاهرة خرجت مؤخراً في نابلس. لقد تبنت قيادة رام الله، بشكل غير مقنع تماماً، شيئاً من خطاب حماس، واستعملت كلمة «مقاومة» وامتدحت قدرة حماس على القتال. حدثت صدامات في الضفة الغربية والقدس الشرقية كل ليلة تقريباً. في 24 تموز، خلال ليلة القدر، شهدت نقطة تفتيش قلنديا شمال القدس أكبر مظاهرة في الضفة الغربية منذ الانتفاضة الثانية. تعرف حماس أنه ليس بإمكانها هزيمة الجيش «الإسرائيلي»، إلاّ أنّ حرب غزة تحمل لها جائزة بعيدة المنال لكنها ليست أقلّ أهمية تتمثل في تحريك الضفة الغربية وتقويض قيادة رام الله وبرنامج التفاوض الأبدي والتسوية والاعتماد على الولايات المتحدة الذي تمثله تلك القيادة.
بالنسبة للعديد من الفلسطينيين فإنّ حماس أثبتت مرة أخرى فعالية نسبية في القتال. الأنفاق، التي كانت محورية لنجاحاتها في المعارك الحالية، كانت مصدراً للهجمات ضدّ «الإسرائيليين» في قطاع غزة منذ ما قبل انسحاب «إسرائيل» منها عام 2005. وتشير حماس إلى سلسلة من الهجمات التي شنتها من الأنفاق، بما في ذلك تفجير مميت في كانون الأول 2004 تحت موقع عسكري «إسرائيلي» جنوب قطاع غزة ساعد في تسريع الانسحاب «الإسرائيلي». منذ أن بدأ القتال في قطاع غزة هذا الصيف، لم تعلن «إسرائيل» عن بناء مستوطنة جديدة وأعربت عن استعدادها لتقديم تنازلات معينة للمطالب الفلسطينية ـ وهي إنجازات لم تتمكن قيادة رام الله من تحقيق مثلها خلال سنوات من المفاوضات. إنّ حصيلة الحرب ستساعد في تحديد المسار المستقبلي للحركة الوطنية الفلسطينية.
لم يكن العائق الحقيقي لانتفاضة في الضفة الغربية، كما ادّعت حماس، تعاون عباس مع «إسرائيل»، بل كان الانقسام الاجتماعي والسياسي، والقبول الفلسطيني واسع النطاق بأنّ التحرّر الوطني يأتي في المرتبة الثانية بعد المشاريع التكنوقراطية وغير السياسية المتمثلة في بناء الدولة والتنمية الاقتصادية. هذه عقبات أكبر بكثير أمام حماس. أما من حيث أنّ المعارك الأخيرة زرعت الفخر والكبرياء في نفوس الفلسطينيين الذين يقولون إنهم باتوا معتادين على الشعور بالعار من الطريقة التي يلهث بها قادتهم على أقدام الأميركيين و«الإسرائيليين»، فإنّ إنجاز حماس لم يكن بالقليل.
إلاّ أنّ حماس خاطرت بالكثير، حيث يمكن أن تخسر كلّ شيء إذا أعادت «إسرائيل» تقييم اعتمادها طويل الأمد على رجال شرطة قطاع غزة، وهي استراتيجية دفعتها للمحافظة على حماس قوية بما يكفي في قطاع غزة لممارسة ما يشبه الاحتكار على استعمال القوة. تتمثل إحدى مفارقات الأسابيع الأخيرة من المعارك البرية في أنّ أداء حماس القوي قد جعل موقعها في قطاع غزة في خطر. قد تقرّر «إسرائيل» أن الحركة أصبحت تشكّل تهديداً أكبر مما ينبغي. لقد أبطأت حماس من التوغل البري «الإسرائيلي» وألحقت العشرات من الخسائر في صفوف الجنود «الإسرائيليين»، أكثر مما توقّع معظم المراقبين. بعد أسبوعين من بداية التوغل البري، لم يكن الجيش «الإسرائيلي» قد تجاوز أول خط من المنازل الحضرية ذات الكثافة السكانية العالية. بفضل الشبكة الواسعة من الأنفاق التي لا تفضي فقط إلى أراضي الـ48، بل المنتشرة أيضاً تحت قطاع غزة، إذا قرّرت «إسرائيل» دخول مراكز المدينة، فإنه من المؤكد أنّ خسائرها سترتفع. خلال عملية «الرصاص المسكوب» في 2008 ـ 2009، توغلت «إسرائيل» أعمق بكثير في قطاع غزة وفقدت عشرة جنود فقط، أربعة منهم بسبب النيران الصديقة أما اليوم فإنّ القوات البرية «الإسرائيلية» خسرت أكثر من ستين جندياً. ويبدو أنّ الخسائر بين مقاتلي حماس مقبولة حتى الآن. لأول مرة منذ عقود، تدافع «إسرائيل» عن نفسها ضدّ جيش اخترق حدود 1967 بواسطة الأنفاق والتوغلات البحرية. بات يمكن للصواريخ المنتَجة في قطاع غزة الآن أن تصل إلى أكبر المدن «الإسرائيلية»، بما في ذلك حيفا، كما بات لديها طائرات دون طيار محمّلة بالصواريخ. لقد تمكّنت من إغلاق المطار الرئيسي في «إسرائيل» لمدة يومين. «الإسرائيليون» الذين يعيشون قرب قطاع غزة غادروا منازلهم ويخشون العودة إليها، حيث يقول الجيش «الإسرائيلي» إنه لا يزال هناك أنفاق لا يعرف عنها شيئاً. جعلت الصواريخ المنطلقة من قطاع غزة «الإسرائيليين» يعودون إلى الملاجئ يوماً بعد يوم، وأظهرت عدم قدرة الجيش «الإسرائيلي» على التعامل مع ذلك التهديد. يقدَّر بأن الحرب كلّفت «إسرائيل» مليارات الدولارات.
لقد كانت الكلفة الأعلى بالطبع هي تلك التي تحمّلها المدنيون في قطاع غزة، الذين يشكلون الأغلبية الساحقة بين أكثر من 1600 قتيل مع إعلان وقف إطلاق النار الذي أُعلن وانهار بسرعة في 1 آب. لقد أبادت الحرب عائلات بأكملها، ودمّرت الأحياء، وهدمت المنازل، وقطعت الكهرباء وحدّت بشكل كبير من إمكانية الوصول إلى المياه. سيحتاج قطاع غزة إلى سنوات للتعافي، هذا إذا تمكن من ذلك على الإطلاق.
ويبدو من غير المرجح أنّ حماس ستكون مستعدة لمعركة جديدة في المستقبل القريب. ولذلك فإنّ لديها كلّ الحوافز لمحاولة تحقيق أهدافها الرئيسية الآن، وخصوصاً رفع الحصار عن قطاع غزة. يهدف الوسطاء إلى مساعدة سكان غزة من دون أن يظهروا بمظهر من يقدّم نصراً لحماس ومن يسهم في هزيمة «إسرائيل». ما هو على المحك بالنسبة لـ«إسرائيل» ومصر هو أثر الانتصار المزعوم لحماس على مستقبل الإخوان المسلمين في المنطقة. وما هو على المحك بالنسبة لحلفاء الإخوان المسلمين، قطر وتركيا، هو معنى الهزيمة. لقد ساعدت الرمزية التي ينطوي عليها الصراع على إطالة أمده.
الحلّ الواضح هو السماح بعودة الحكومة الفلسطينية الجديدة إلى قطاع غزة وإعادة بنائه. بوسع «إسرائيل» أن تزعم أنها تضعف حماس بتعزيز قوة أعدائها. وبوسع حماس أن تزعم أنها كسبت اعتراف الحكومة الجديدة وحققت رفعاً كبيراً للحصار. هذا الحلّ كان بالطبع متاحاً لـ«إسرائيل»، والولايات المتحدة، ومصر والسلطة الفلسطينية في الأسابيع والشهور التي سبقت بداية الحرب، وقبل هذه الخسائر الكبيرة في الأرواح.
الكاتب مقيم في القدس، والمقال مترجم عن النسخة الأصلية بالإنكليزية والذي نشر في «لندن ريفيو أوف بوكس»