هل هي استراتيجية داعش الجديدة أم إثبات القدرة أمام الهجمات؟
ناصر قنديل
– يمكن القول بثقة إنّ الأسابيع الماضية بقدر ما حملت من الإشارات السياسية والعسكرية على تحوّل وجود داعش في سورية والعراق إلى هدف واضح لعمليات ستتصاعد وتتزايد التفاهمات المحيطة بها، حملت أيضاً توسّعاً كمياً ونوعياً في عمليات داعش خارج بقعة سيطرتها العسكرية، ففيما يخسر داعش مزيداً من الجغرافيا في العراق ويتعرّض لهجمات استنزافية في سورية، وبقدر ما يتحقق تقارب بين القوى المنخرطة في مواقع متقابلة في الحرب السورية يجعل ساعة تخندقها في موقع مشترك في الحرب على داعش أقرب. ويبدو التفاهم الروسي الأميركي والروسي التركي ضمن هذا الإطار، بحيث يمكن لأيّ متابع ومثله يمكن لقيادة داعش الاستنتاج بأنّ الظروف التي رافقت سيطرة داعش على جزء هامّ من الجغرافيا السورية والعراقية، لم تعُد طويلة، أو أنها على الأقلّ لم تعُد ممكنة بالسهولة واليسر اللذين رافقا ولادة هذه السيطرة، وأنّ اياماً قاسية وقاتمة تنتظر هذه السيطرة، سواء في الموصل في العراق أو في الرقة ودير الزور والحسكة في سورية، وبالقدر نفسه بدت عمليات داعش النوعية والضخمة، تتّسع لتطال ساحات مثل تركيا والسعودية والأردن ولبنان، إضافة لبنغلادش، وبدت العمليات تعبيراً عن ردّ على الاستهداف، فماذا قالت هذه العمليات بما يتخطّى السعي الملازم لداعش بالإبهار واحتلال عناوين الصفحات الأولى ومطالع نشرات الأخبار؟
– تظهر معاينة تجربة تنظيم داعش أنه بالقدر الذي يبدو قادماً من بطون كتب التاريخ الغابر، وبالقدر الذي يحمل أعلى درجات التخلّف والتوحش في النظر لكلّ ما يتصل بالإنسان، فهو على صلة حيوية متفوّقة في استخدام كلّ ما هو عصري في ميدان الحرب، من سلاح وكفاءة تنظيمية، وتخطيط، واستثمار لأحدث تقنيات شبكات التواصل، حتى صارت الطرفة السائدة مع كلّ شريط فيديو ينشره داعش عن حملات تحطيم أجهزة التلفزة في منازل سكان المناطق التي يسكنها، هي إضافة تعليق عليها يقول، تمّ تصوير هذا الفيديو بواسطة أحدث تقنيات جهاز أيفون، وبالتالي بالقدر الذي يجب فيه التعامل مع مشروع داعش كمشروع متخلّف ومتوحّش في مضمون ما يعرضه على المجتمع وجب في قتاله أن يوضع في الحساب أنّ المعني هو جهة عصرية ورشيقة ودينامية وحيوية.
– تقول طبيعة الساحات التي اختارها داعش ميداناً لعملياته أنه استطاع بسرعة استيعاب الصدمة التي حملتها تحوّلات الأسابيع الأخيرة، فليست مصادفة أن تكون ساحات عملياته في زمن تصعيد استهدافه وتبلور تفاهمات ستجعل هذا الاستهداف أشدّ قسوة، هي ساحات دول ساهمت حكوماتها كتركيا والسعودية والأردن في تسهيل مهمة سيطرة التنظيم على الجغرافيا السورية والعراقية التي يتمركز فيها، ولتكون الرسائل الدموية إشارات مزدوجة تقول للعالم ولهذه الدول إنّ الاستهداف لا يرعب التنظيم ولا يصيبه بالذعر، ولا يربكه، فهو قادر في هذا المناخ أن ينفّذ عمليات نوعية وموجعة، وتقول لهذه الدول إنّ تخليها عن دعم التنظيم لن يضعفه ويصيبه بالوهن، لكنه سيصيبها بالأذى والألم، بينما ترسم هذه العمليات نفسها إذا أضيفت إليها عمليات القاع شمال شرق لبنان، مسرح الحركة العسكرية التي يريد التنظيم التحرك فيها وعبرها، كلما اشتدّ الضغط عليه في نطاقه الجغرافي الراهن، نحو تركيا تزامناً مع نشر استطلاعات رأي تقول إنّ 5 من الأتراك متعاطفون مع التنظيم، وعبر تركيا إلى أوروبا، وإلى الأردن حيث الساحة الإخوانية متداخلة مع تنظيم القاعدة منذ حرب العراق، ولا تزال، وتتيح تشكيل أرضية يعتمد عليها هناك، وعبر الأردن والعراق إلى السعودية حيث البيئة التي يراهن التنظيم أنها متصالحة مع فكره وأنه قادر على اجتذاب شرائح واسعة من شبابها، وعبر القاع إلى شمال لبنان ومنه نحو أوروبا.
– فهم حركة التنظيم قد يحتاج إلى بعض تشبيهات الفيزياء والكيمياء، حيث الطبيعة ومثلها في السياسة والعسكر، تتبلور مناطق السيطرة المقفلة لقوة عسكرية، بالطريقة التي يتسلل فيها الغاز ويتحوّل سائلاً ثم تحوّله الكثافة ويزيده التراصّ صلابة ليصير جماداً بينما داعش دخل فجأة كجسم صلب إلى المناطق التي سيطر عليها، ولم يحدث ذلك لأنه قام بإحداث تكسير في الأجسام الصلبة التي تموضع على حسابها، وهي الجيشان السوري والعراقي، بل لأنّ هناك مَن قام بضغط قوتيهما إلى الخلف مفسحاً له المجال للتقدّم بيسر وسلاسة والتموضع في جغرافيا ما بين النهرين، ليجعل من المناطق السورية والعراقية الواقعة بين نهري دجلة والفرات إمارة له، وكحركة النوابض أو الراسور فيزيائياً، فقد انسحبت الضواغط التي مهّدت للتنظيم التموضع أو تكاد، ليجد نفسه بين فكي كماشة يضيقان تدريجاً وتضاف لقوة ضغطهما قوى إضافية. والفكان هنا هما الجيشان السوري والعراقي، والقوى الأخرى هي حاصل التفاهمات الروسية الأميركية والروسية التركية وربما السعودية أيضاً، فهل يقرّر داعش أنها معركة وجوده وسيخوضها على طريقة «يا قاتل يا مقتول»؟
– عمليات داعش الأخيرة تقول إنه وفقاً لقواعد الكيمياء والفيزياء قرّر التصرف بمبدأ التحوّل التدريجي لأجزاء من جسمه الصلب، من جماد إلى سائل ينساب نحو الحدود. والتحوّل من سائل إلى غاز يتمدّد ويتشتّت، ويتبدّد لاحقاً، وتكرار هذه الموجات، حتى يتسنّى للبنية الرئيسية التي تتموضع في إمارة بين النهرين، على إيقاع موجات الحرب الآتية، أن تستكمل الانتشار على مساحة ممتدّة من أوروبا إلى عمق آسيا والساحل الأفريقي، وتحويل لبنان والأردن وتركيا إلى مجارٍ نهرية لانسياب بنيته قبل التبخر والتحوّل إلى جسم غازي يصعب ضبطه وتتعقد ملاحقته. فهو لا يبغي بناء إمارات بديلة، بل امتلاك تموضع لخلايا فاعلة تختبئ في بيئة وملاذ يحميانها، وتملك عبرها قدرة التحرّك والتنقل، والواضح أنه ينظر لتركيا والأردن وشمال لبنان والسعودية وصولاً عبر الأردن إلى سيناء وليبيا، بهذه العيون.
– يدرك التنظيم مكوّناته وعلاقتها المتحرّكة بالبيئات التي تعامل معها، فهو لا يستطيع الرهان على حالات انضمام فردية لمواطنين غربيين ينضمّون لصفوفه بفعل تحوّلات سيكولوجية وثقافية وفلسفية، إلا بقدر ما يوظفهم في عملياته الدعائية، ولا يستطيع الرهان على الإمساك بسكان بلدان العالم الإسلامي الذين تفاعلوا مع الحضارات، والذين عاشوا التعدّد، بل يراهن على بعض الشرائح المنغلقة والمتطرفة بينهم لتضخّ له القادة الدينيين، بينما لن يجد أرضية اجتماعية تمتصّ شحناته العدائية والدموية بمثل حال مسلمي بلدان الغرب، الذين يتكفل التمييز العنصري الذي يعيشون في ظلاله بجعلهم، أمام العجز عن التغيير بتوازنات اجتماعية وسياسية وأمنية معلومة، لا يتطلّعون لغير الانتقام والتشفّي، وهذا ما يوفره لهم داعش، ويتكفل عمل داعش باستثارة المزيد من التمييز ضدّ مسلمي الغرب، ويتكفل المزيد من التمييز بضخ المزيد من الشباب الغاضب إلى صفوف داعش، فالغرب وخصوصاً اوروبا وجهة النزوح المنظم. ومسارب النزوح من بوابات تركيا ولبنان وليبيا، والسعودية هي الخزان الذي يضخّ القادة والكوادر العقائديين.
– فانية وتتبدّد، عنوان فيلم لنجدت أنزور عن داعش. وللتبدّد لغوياً معنيان، الزوال، أو التشتّت وهو هنا فعل انتشار.