أبعد من الإدانة والاستنكار
معن بشّور
تفجيرات المدينة المنوّرة والقطيف وجدّة، وقبلها تفجيرات الكرادة البغدادية، وتفجيرات اسطنبول والقاع والأردن وبنغلادش، والحروب المستمّرة لتدمير سورية واليمن وليبيا ومصر، تحتاج منا إلى ما هو أكثر من بيانات الإدانة والاستنكار وعبارات التضامن والتعاطف مع ذوي الشهداء الذين استهدفهم أهل الغلوّ الدموي والتوحّش الإجرامي.
إنّ هذه الموجة التي لم تنحصر بالمجتمعات العربية والإسلامية وحدها، بل شملت عواصم ومدناً عالمية، تحتاج من الجميع، لا سيّما من الذين راهنوا على إمكانية «الاستثمار في الإرهاب» اليوم، كما الذين راهنوا على «الاستثمار في الاحتلال» بالأمس، بعد الحرب الأميركية الأطلسية على العراق، إلى مراجعة جريئة، ووقفة مع الذات، تؤدّي إلى إخراج العلاقات العربية العربية، والإسلامية الإسلامية، والعربية الدولية، من دائرة التناحر والتنابذ والاحتراب، إلى دائرة التوافق والتعاون والتكامل لمواجهة هذه الموجة التي لن ينجو أحد من آثارها الدموية التدميرية.
في إطار المراجعة المطلوبة هذه، لا بدّ من الخروج من حالة الإنكار والكيدية والتشبّث بالمواقف المسبقة والمعيقة، وفتح باب الحوار العقلاني الهادئ بين تيارات الأمّة الفاعلة كافة، كما بين الحكومات المعنية في الإقليم الحضاري العربي الإسلامي.
في إطار هذه المراجعة المطلوبة، لا بدّ من دور خاص لمصر، وهي ذات الموقع التاريخي والاستراتيجي والقيادي في الدائرتين العربية والإسلامية، بل هي القادرة على التواصل مع معظم العواصم المعنية بمواجهة هذه الموجة الإرهابية، فتأخذ مبادرة لعقد قمّة عربية جامعة تكون سورية في القلب منها، وهي الدولة المؤسسة في الجامعة العربية، والكيان الأكثر تضرّراً واستهدافاً من هذه الحرب الإرهابية الكونية. قمّة تكون مهمتها إغلاق كل الثغرات السياسية والأمنية والإعلامية التي يتسلّل منها هؤلاء الإرهابيون ليعيثوا في الأوطان والمجتمعات دماً ودماراً وفساداً في الأرض.
المبادرة الثانية المطلوبة من مصر، هي الدعوة إلى قمّة التعاون الإسلامي، فتكون قمّة جامعة لا إقصاء فيها ولا إبعاد لأيّ دولة من دول هذه المنظومة، يتمّ التهيئة لها بتطبيع العلاقات المصرية التركية، والمصرية الإيرانية، ويشكّل المثلث المصري التركي الإيراني فيها قاعدة ارتكاز لتضامن عربي إسلامي يبدأ بمكافحة الإرهاب، ويتواصل ببناء إقليم عربي إسلامي مستقلّ قادر على تحقيق تكامل اقتصادي وتنمية بشرية واستثمار عقلاني للموارد بعيد عن التناحر والسياسات الصفرية المعتمدة حالياً.
في ظلّ نجاح هاتين المبادرتين، التي ندرك حجم الصعوبات والعوائق التي تعترض سبيلهما، يمكن لإقليمنا العربي الإسلامي أن يحتلّ موقعه الهامّ على المستوى العالمي، بل أن ينجز بالتعاون مع بقية دول العالم منظومة تعاون وأمن استراتيجي تصون البشرية بأسرها من شرور هذه الجماعات التي ظنّ البعض أنه بإمكانه استغلالها، فإذ به يتجرّع من الكأس المرّة ذاتها، التي حاول أن يجرّع الآخرين منها…
وفي مواكبة هذه المبادرات على المستوى الرسمي، لا بدّ من مبادرات على المستوى الشعبي العربي والإسلامي، فتغادر تيارات وقوى ومنظمات مواقع العداء لبعضها البعض، وتدرك أنّ أحداً لا يمكنه إلغاء أحد، في إقليم سمته الرئيسية هي تعدّد الأديان والمذاهب والقوميات والإثنيات والعقائد والأفكار.
فالقوى الشعبية العربية تملك في علاقاتها البينية تاريخاً من التناحر إذا حاولنا استعادته اليوم لما بقي فريق على صلة بفريق آخر، ولكن هذه القوى أيضاً، وفي ضوء مراجعة مرحلة الصراعات المدمّرة بين تيارات الأمّة، وداخل كلّ تيار، بل كلّ حزب، نجحت خلال العقدين اللذين سبقا ما يسمّى «بالربيع العربي»، في بناء خطوات جادّة على طريق التنسيق والتعاون والتكامل، خصوصاً حين باتت فلسطين تجمعها جميعاً، وبات نهج مقاومة الاحتلال صهيونياً أم أميركياً، نهجاً معتمداً من أغلبيتها الساحقة…
قد تبدو هذه الأفكار أقرب منها إلى الأماني الجميلة، والأحلام الوردية، ولكن متى تحقق إنجاز لم يكن وراءه حلم، ومتى حققت الأمّة انتصاراً لم تكن وراءه رؤية امتزج فيها الخيال بالواقع؟…
وقد تثير هذه الدعوات اعتراضات أصحاب الرؤوس الحامية، في هذه الدولة أو تلك، في هذا التيار أو ذاك، وقد يستعرض البعض شريطاً من الذكريات والوقائع المؤلمة التي تدعم وجهة نظره المتشدّدة، لكن الواقع يثبت يوماً بعد يوم أنّ إلغاء الآخر هو الأسلوب المستحيل في مواجهة هذه الموجة الدامية، الإقصائية في فكرها وعقيدتها، التي لم ينجُ منها أحد…
الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي