انفجار كرادة: قنبلة فراغية أم «سي4 + أمونيا»؟

ميشيل حنا الحاج

تفجيرات عدة نفذت في الأيام الأخيرة من رمضان، فقد شملت تفجيراً في مطار اسطنبول، وعملية في دكا، وتفجيراً في حي الكرادة في بغداد، ثم ثلاث هجمات متلازمة في السعودية شملت جدة والقطيف والمدينة المنورة… لكن التفجير في حيّ الكرادة، كان أبشعها وأبلغها ضرراً من حيث عدد الضحايا، بحيث يتوقع البعض على ضوء مشاهدتهم للموقع، أنّ عدد الضحايا سيبلغ في نهاية الأمر رقماً مذهلاً، وتتكتم السلطات العراقية عليه خوفاً من ردّ الفعل الشعبي المتوقع أن يكون قوياً جداً. وقد ذهب البعض الى حدّ تشبيه مجزرة الكرادة، بمجزرة ملجأ العامرية خلال حرب عام 1991.

فالرقم الأولي للضحايا كان بحدود 120 قتيلاً، وسرعان ما ارتفع في اليوم الثاني ليبلغ 165، ومن ثم في اليوم الثالث الى 250 ضحية، مع وجود معلومات لدى البعض، مصادرها من بغداد، وتفيد بأنّ 81 جثة موجودة الآن في المشرحة ولم يتمّ احصاؤها بعد، مما يرجح معها احتمال أن يرتفع الرقم ليتجاوز 330 ضحية. ومع ذلك يتوقع بعض المراقبين ومنهم السياسي العراقي المستقلّ الدكتور أحمد الأبيض، أن يرتفع الرقم كثيراً في وقت لاحق، مرجّحاً استناداً لمصادره في بغداد، احتمال وصوله الى 800 قتيل انْ لم يكن أكثر، علماً أنّ هذه كلها أرقام غير مؤكدة، ومجرد تكهّنات وترجيحات تستند الى مدى الضرر الذي لحق بالمبني وبالمنطقة.

فالدكتور أحمد الأبيض الذي حصل على درجة الدكتوراه في دراسته المتخصّصة في المواد الكيماوية، يرجح أنّ المادة المستخدمة في التفجير، كانت مادّة من مواد ربما تنتمي إلى عائلة أسلحة الدمار الشامل، ولم تكن مجرد متفجرات عادية، والا لما كانت قد الحقت هذا العدد الكبير من الضحايا، ولما تسبّبت بهذا الحجم الضخم جداً من الدمار.

والواقع أنّ دراسة عمليات التفجير السابقة في العراق خلال هذا العام فحسب، أيّ منذ بدايته والى ما قبل تفجير الكرادة، وعددها 6 هجمات تفجيرية… يلاحظ أنّ مجموع ضحاياها كانوا 342 ضحية موزعين كالآتي:

1 ـ تفجيران في مدينة الصدر نفذا في 28 شباط، وتسبّبا بوقوع 70 ضحية.

2 ـ تفجيران في مدينة الحلة نفذا في 6 آذار وتسبّبا بمقتل 47 شخصا.

3 ـ تفجير سيارتين في الأول من أيار في مدينة سماوة، تسبّبا بمقتل 33 عراقياً.

4 ـ تفجير سيارة في مدينة الصدر في 11 أيار تسبّبت بمقتل 93 ضحية.

5 ـ أربع تفجيرات في عدة مناطق شيعية في 17 أيار سقط نتيجتها 69 قتيلاً.

6 ـ تفجير آخر وأخير في بغداد، نفذ في 9 حزيران أيّ مع بدايات شهر رمضان وسقط نتيجته 30 قتيلاً، مما يرفع مجموع ضحايا التفجيرات منذ أول العام الى ما قبل التفجير الكبير والأخير في الكرادة، الى 342 ضحية كما سبق وذكرت، وهو رقم قد يضاهيه مجموع ضحايا هذا التفجير الأخير، بعد الإعلان رسمياً عن مقتل 250، وتسرّب أخبار من موظفي المشرحة في بغداد عن وجود 81 قتيلاً آخر لم يعلن عنهم بعد، إضافة الى وجود عدد كبير من الجرحى المصابين بإصابات بليغة، والذين قد لا ينجون بسبب ما أصابهم من جراح بليغة. اضافة الى ترجيحات البعض بأن العدد النهائي للضحايا في رقمه النهائي قد يكون مذهلاً فعلاً.

فإذا لاحظنا أنّ أبشع رقم حصده تفجير واحد خلال الشهور السابقة من هذا العام، وهو أضخم تلك التفجيرات، أيّ التفجير الذي شهدته مدينة الصدر، قد حصد 93 ضحية… يضطر المراقب إزاء ذلك الى التساؤل عن السبب في تميّز تفجير الكرادة الذي وقع عشية عيد الفطر، بهذا الرقم الكبير من الضحايا الذي قد يعادل عدد الضحايا الذين سقطوا نتيجة كلّ التفجيرات مجتمعة والتي نفذت في الشهور الستة الأولى من هذا العام. بل وقد يفوقه كثيراً في الإحصاء النهائي، كما يقدر البعض.

ويعترف بيان وزارة الداخلية العراقية، أنّ السيارة التي فجرت في مبنى الكرادة، قد مرّت على ثمانين نقطة تفتيش قبل وصولها الى بغداد لتتوقف أخيراً في الكرادة… كما قال بيان وزارة الداخلية العراقية، دون أن تكتشف أجهزة الأمن والتدقيق حمولة هذه السيارة. فهل كان ذلك صحيحاً؟ هل مرّت فعلاً على ثمانين نقطة تفتيش ولم يعثر على أيّ شيء غريب في حمولتها؟ أم أنّ السيارة المفخخة كما يفترض ، لم تحمل فعلاً أياً من المتفجرات، وأّن ذلك كان السبب الحقيقي لعدم اكتشاف شيء غريب في حمولتها. وقد دمّرت السيارة بعد ذلك، لا بسبب تفجير حمولتها، بل نتيجة التدمير الذي لحق بالمبنى الذي فجر بوسائل أخرى، وكانت السيارة تقف امامه أو قربه.

وافترض البعض ممن اعتقدوا باستخدام سلاح جديد مختلف في تفجير الكرادة، أنّ السلاح المستخدم هذه المرة، له قوة وفعالية أسلحة الدمار الشامل. وذهب البعض في تكهّناته، الى حدّ التردّد بين استخدام سلاح قوي ذي صبغة كيماوية كسلاح أسموه «سي4 + أمونيا»، وبين القول باستخدام قنبلة فراغية في ذاك التفجير. ولكن خبرة سابقة لي مع قنبلة فراغية ألقيت في بيروت، جعلتني أستبعد فوراً هذا الاحتمال.

فالقنبلة الفراغية تلقى من طائرة ولا تفجر على الأرض. وهذا أمر مستبعد في حالتنا هذه، وخصوصاً اذا كان المنفذ فعلاً هم إرهابيو الدولة الاسلامية ـ داعش. والقنبلة الفراغية تحدث ثقباً في المبني لتدخل منه وتقتل كلّ من بداخله. لكن القتلى عندئذ، لا يشعرون قط بما لحق بهم. فلا جثث محترقة، ولا أشلاء مقطعة الأوصال ومتناثرة، كما حدث في تفجير الكرادة. بل ما تشاهده من معالم على الضحايا هو كونهم في حالة سبات عميق وكأنهم توفوا وهم نائمون. وتحدث الوفاة عندئذ نتيجة قيام القنبلة الفراغية، بتفريغ المنطقة المستهدفة من الهواء وما فيه من أوكسجين، ولذا سمّيت بالقنبلة الفراغية فيلقى الضحية حتفه مختنقاً دون وجود آثار لجراح، أو احتراق.

وقد شهدت بنفسي قبل عدة أعوام، آثار قنبلة فراغية القيت على أحد المباني في حي الصنائع في بيروت، وذلك خلال مرحلة الحرب الأهلية في لبنان، عندما غزت «إسرائيل» لبنان عام 1982 متدخلة في الحرب الأهلية بشكل مباشر، سعياً منها لوضع حدّ للتنامي المتزايد لقوة المقاومة الفلسطينية في لبنان. وكانت «إسرائيل» تقدّر أنّ إنهاء الحرب، أو اختصار حاجتها للمضيّ قدماً بعملية الغزو، تقتضي تصفية الرئيس المرحوم ياسر عرفات. ولذا كانت تراقب خطواته خطوة خطوة محاولة اصطياده.

لكن الرئيس الراحل كان أذكى، ولذا كان يبدّل المواقع التي يعقد فيها اجتماعاته مع قادته ومستشاريه. بل وكان يفترض دائماً احتمال تواجد جاسوس لـ«إسرائيل» في الموقع الذي يعقد الاجتماع فيه، كأن يكون حارس المبنى، أو أحدهم يقيم في مبنى مجاور. وكان يقدر بأنّ الجاسوس سيحتاج الى بعض الوقت ليبلغ موساد تل أبيب بتواجد عرفات في موقع كذا، ويحتاج أولئك لبضع دقائق ليحصلوا على موافقة رئيس الوزراء بالإغارة على الموقع، ومن ثم لوقت اضافي آخر لإصدار الأمر للطائرات بالاقلاع، ومن ثم لتصل تلك الطائرات الى موقع الهدف. مستعيناً بهذا التقدير، كان المرحوم عرفات يتعمّد عدم البقاء في موقع ما غير موقع قيادته الأكثر تحصيناً والذي كان أيضاً يبدّله باستمرار ، مدة قد لا تصل الى الساعة الكاملة ولكن لا تتجاوزها، وهو الوقت الذي قد يكون كافياً للنجاح باستهدافه. وهذا ما حصل فعلاً في صيف عام 1982 عندما عقد اجتماع سري في أحد المباني الواقعة في منطقة الصنائع، وغير البعيد جداً عن شارع الحمراء المعروف في بيروت. فهو بعد أن أمضى ساعة في الاجتماع، وربما أقل، ركب سيارته وانطلق بموكبه عائداً الى حي الفاكهاني.

وكنت واقفاً يومئذ في نافذة مكتب وكالة الأنباء التلفزيونية «دبليو تي أن» التي أعمل مديراً لها. وكان المكتب في مبنى صحيفة «النهار» المتواجد في بداية شارع الحمراء. وهنا حدثت مفاجأتان: الأولى مشاهدة موكب ياسر عرفات يطلّ علينا فجأة آتياً من منطفة الصنائع، ويمرّ بمقهى الهورس شو، ثم يدخل موكبه يساراً نحو شارع الحمراء. ولكن بمجرد دخول موكب الرئيس شارع الحمراء، وقعت المفاجأة الثانية والمتمثلة بدويّ انفجار كبير في مبنى غير بعيد عن ناظري ونظرات زملائي الذين كانوا قربي.

بطبيعة الحال عجل المصوّرون بالذهاب فوراً الى موقع الانفجار، ليعودوا اليّ بعد أقلّ من ساعة حاملين شريطاً مذهلاً في بشاعته. كان يتضمّن صوراً لعدد كبير من الموتى، اما نائمين في أسرتهم، أو جالسين على مقاعدهم. وجميعهم قضوا نحبهم صامتين وبدون آثار حروق أو جروح على أجسادهم. وألمح بعض سكان الجوار أنّ عرفات كان في المبنى لبعض الوقت، كما كتب لاحقاً الصحافيون والمحللون بأنّ «إسرائيل» قد استخدمت في هذه الإغارة، قنبلة أطلق عليها اسم «القنبلة الفراغية».

واستناداً لتجربتي هذه، خصوصاً وقد انتقلت عندئذ على عجل الى المبنى المصاب بالقنبلة الفراغية، وشاهدت بنفسي المتوفين الذين لم يكن قد تمّ نقلهم بعد، والنهج الذي أدّى لوفاتهم، فقد استبعدت تماماً الطرح القائل باحتمال كون قنبلة فراغية قد ألقيت على المبنى في الكرادة، رغم بقاء الملاحظة الواضحة والصارخة بتميّز هذه الهجمة بالذات، بعدد ضحاياها وبمدى دمارها، عن التفجيرات الستة السابقة التي شهدتها بغدلد ومدن عراقية أخرى منذ بداية العام، والى ما قبل تفجير الكرادة.

ولكن ماذا يمكن أن يكون قد حدث فعلاً في الكرادة؟ أي نوع من السلاح قد استخدم ليحصد هذا العدد الكبير من الضحايا، وهل نقل السلاح أو المادة المتفجرة.. المتميّزة كما يبدو عما اعتادت الدولة الاسلامية ـ داعش استخدامه، في تلك السيارة التي مرّت على 80 حاجز ولم يكتشف ما فيها من محتويات، أم وصل السلاح المتفجر الى المبنى بوسيلة أخرى؟ وما هو نوع هذا السلاح المتميّز الذي حصد الكثير من الضحايا؟ وطالما أنّ القنبلة الفراغية التي افترضت من البعض قد استبعدت، فهل استخدم حقاً، كما قال خبراء في هذا الشان، ذاك السلاح الغريب المسمّى «سي4 + أمونيا»، المجهول بالنسبة لي وللكثيرين؟ أم هناك سلاح ثالث له فعالية متميّزة في قدرتها على التدمير والقتل، بشكل أبشع من ذي قبل، ويختلف عما اعتدناه في جرائم التفجير التي ارتكبها داعش سابقاً؟

لا أريد الذهاب مع القائلين بأنه تركيب من مزيج كيماوي، كما قدّر بثقة كبيرة، خبير متخصص بهذا النوع من المواد الكيماوية، مفضلاً الانتظار حتى يكشف التحقيق لنا غموض ما حدث في الكرادة، وأسباب تميّز هذا التفجير بارتفاع نادر بعدد ضحاياه، اضافة الى قدرته على المرور، انٍ كان قد جاء فعلاً بتلك السيارة أو الشاحنة، عبر ثمانين نقطة تفتيش بدون اكتشافه.

ولو صحّ استخدام سلاح متميّز في هذه المرة، فانه يفترض بكلّ التحالفات المقامة، والذين يدّعون بأنّ مهمتهم مقاتلة داعش واغتيالها، أن يفكروا ملياً، ويبحثوا عن وسائل أنجع في مقاتلتها، لأنّ مقاتلتها بهذا النهج العقيم البطيء وغير الجدّي، قد يؤدّي بالمنطقة، بل بالعالم كله الى الهلاك، مع وجود قدرات هائلة لدى الدولة الاسلامية ـ داعش، سواء على صعيد التطوير العلمي، أو التخطيط الاستراتيجي الذي شكل بسلسلة التفجيرات الأخيرة في مناطق متعدّدة من العالم، رداً واضحا بأنّ كلّ هزائمه على الأرض، سواء بالفلوجة أو في شمال سورية بما فيها محاصرة منبج، لا تعني الكثير له، وأنه قادر على ان يهاجم مباغتاً من الخلف، وان عجز، أن يستخدم سلاح التفجير الذي ربما طوّره بشكل أراد أن يفاجئ الجميع به، ولعلّ تفجير الكرادة بنوعيته المتميّزة ولو الى حدّ ما، كانت رسالة إنذار قد تكون الأولى، لكنها قد لا تكون الأخيرة.

مستشار في المركز الأوروبي العربي لمكافحة الارهاب ــ برلين.

عضو في مركز الحوار العربي الأميركي ــ واشنطن.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى