ذات تمّوز
عبير حمدان
هذه السنة، لا أريد رصف الحروف قصيدة مثقلة بالجمر المقيم في نبض العيون، فالقصائد تقفد ألقها حين نستذكر من نحبّ، تصبح باهته وتتجمّد النقاط الموزّعة بين تعرّجات الحروف. هذه السنة، سأخرج من إطار القصيدة إلى المدى الأكثر عمقاً، سأدخل الى قلب الذاكرة لأبحث عن تقاسيم الوجه الذي يرافقني أنّى توجّهت ويرسم خطوط الرؤيا حلماً مختلفاً وكأن صاحبته تشعر بصرير القلم على جبين الأوراق، وتقرأ كلّ ما يخطّه شوقي إلى حضورها بين ثنايا الأيام الباردة والرتيبة.
أذكر بداية الزمن الذي حملني إلى ذلك البيت الدافئ بما يضمّه من ضجيج صغارٍ اليوم كبروا وارتحلوا بعيداً كلّ واحد منهم ابتدع حياة جديدة، ولو أنني أثق أنها ناقصة بعض الشيء حيث غاب عن تفاصيلها سيل الحنان.
في أواخر التسعينات، جمعتني الصُدف الجميلة بالصديقة المميّزة عبير خشاب، ربما لم أكن أعلم أن هذه الصدفة ستصبح فعلاً ثابتاً. ولكن، حين طرقت باب البيت المشبع بالكثير من الحبّ بدا الكون صغيراً أمام بريق عينيها، «عبلة»، «أمّ شادي» دخلت إلى قلب القلب من دون مقدّمات، هي الأمّ المكحّلة بالوجد، تشبه الجنوب بكلّ تفاصيله، وبين حبيبات البنّ تكمن الحكاية.
صديقتي المنهمكة دوماً بالدراسة والعمل منحتني كنزاً لا يُقدّر بثمن. فقد كنت أحياناً أتعمّد زيارتها في أوقات انشغالها، وحين تعمد إلى الاعتذار والانسحاب، أجيبها: «أنا مش جايي لعندك، أنا جايي إشرب قهوة مع أمّك»… تسع سنوات من عمر الفرح كانت «عبلة» الأمّ والصديقة والرفيقة التي لا يمكن لزائرها أن يملّ من حضورها وحكاياتها وصدى ضحكاتها، ذاك الحضور الذي يشبه زهر النارنج بعبقه وغصن الزيتون بتجذّره منحني الكثير من الفرح والأمل. وكنت أسأل نفسي دوماً عن سرّ الطاقة الإيجابية المنبعثة من هذه الإنسانة، وكيف يمكن لها احتواء جميع من يدور في فلكها بكلّ ما أوتيت من حبّ وعطاء.
باتت علاقتي بالدرب الذي يوصلني إلى جلسة القهوة مع «أمّ شادي» طقساً من طقوس وجودي، حتى النقاط المنقوشة على بلاط الدرج في ذلك المبنى العتيق حفظت خطاي وأنا حفظت كلّ الخطوط، وفنجان القهوة يسجّل أحاديثنا في الفنّ والسياسة والعمل وهموم الناس والأمل ودروس اللغة العربية التي كانت تسألني عنها «نور» الطفلة التي كبرت اليوم وتخرّجت في الجامعة. ذاك الفنجان سجّل أيضاً فنون الطبخ ورنين الجرس المتواصل معلناً عن التوافد الدائم للزوار… كلّ هذا الحبّ لم يشفع ذات تمّوز!
لا أدري إذا كانت حروفي حكاية خاصة أم سيرة عامة تشبه كل الحكايات التي نعيشها حدّ الانغماس فتدمينا، ويأتي الخبر عاجلاً كنصلٍ يخترق القلب حدّ الصراخ. عشر سنوات من عمر الخبر العاجل، تاريخ يحفر عميقاً في الذاكرة لم أملك من قصصي معها ومن عبق قهوتها سوى صدى رنين الهاتف الذي استباح بخار قهوتنا وكلمتين: «أمي راحت…». لا أذكر في تلك اللحظة الواقعة في الرابع عشر من تموز 2006، سوى صرختي المدوية وتلاها صمت طويل… هي لم تكن على خطّ النار ولم تختر الغياب طوعاً. لم تملك الاختيار كي تعود إلى بيتها الصغير وتعانق حفيدتها وتسرّح ضفيرتها الغضّة… مع من سأشرب قهوتي والقاتل خطف بخار العمر وسرق فرح الحكاية؟ رحيل بطعم العلقم طحن حضورنا حدّ التفتّت.
ذات تمّوز، كتبت لها القصيدة الأولى التي حملت عنوان «لون عينيها». كان العدوان في يومه الخامس عشر، شعرت أن «عبلة» تدعوني إلى مائدة عامرة بالأمل فكتبت وكأنها من عليائها تلقّفت حبري الحزين لتزور حلمي الهارب من براثن الطائرات الحربية وما تخلفه من دمار وغبار رماديّ، لتودعني وصيّتها بألّا أغيب يوماً عن مواطن عبورها. شعرت أنها ملاكي الحارس ولم يعد ضجيج العدوان مرعباً، ظلّها كان خيمتي، وطيفها رسم لي طريق العودة إلى اليقين. فبات الموعد معها ثابتاً، هي تسامرني على مدار السنة، وأنا أكتب التوق إلى لحظة لقاء مستحيل كلّ… سنة.
«عبلة» التي تقيم في البال لم تغب يوماً عن نبض الحبر. لمحتها بين الوجوه حين اعتليت المنبر الذي لا أتفق معه كثيراً وأدركت أنها تصغي إلى جزء من كلّ. أدركت أنها تتلقّف الحبّ كلّه لا بعضه. فلم يرتجف صوتي، ومضيت إلى وطن يشبه أحلامنا البسيطة ويتفوّق على محيطه بقدرته على التصدّي والمقاومة ليحصد النصر المخضّب بدماء الشهداء.