سلة بري ضرورة وطنية لكن عبورها دونه عقبات…

علي بدر الدين

مبادرة السلة المتكاملة التي أطلقها رئيس مجلس النواب نبيه بري مطلوبة وضرورية في مرحلة التصحّر السياسي والوطني والتحجّر العقلي التي تتحكم بكمّ من الأفرقاء السياسيين الذين يتقدّمون الصفوف الأولى، بعد أن نصّبوا أنفسهم أو عيّنوا عنوة في غفلة من الزمان والأقدار رؤساء لأحزاب ولكتل نيابية وزعماء ووزراء ونواب إلى آخر المعزوفة المملة.

ربما أراد الرئيس بري من مبادرته إحداث صدمة في الوسط السياسي المتجمّد الذي لا حول له ولا قوة ولا قرار في مسار الأحداث السياسية الداهمة والمستجدة، وهو يعلم تماماً بأنّ «جلد الميت حرام» ولا يفيد بشيء ولن يحرك جثثاً همدت حتى إشعار آخر، غير أنه بحكم مسؤولياته وإدراكه لخبايا الأمور وخطورة ما ينتظره لبنان في الآتيات من الأيام وجب رمي بحصة في المياه الراكدة علها تفعل فعلها وتفتح أقفال عقول سياسيين تآكلها الصدأ وشهية القوى السياسية والحزبية أقله التي تحاول إثبات ذاتها وحضورها وقرارها في مجرى الأحداث في لبنان، ولتبدأ مرحلة جديدة من البحث عن حلول أو بعضها بدلاً من تضييع الوقت والجهد بحثاً عن «جنس الملائكة» الذي سيظلّ عصياً ولن يدركه أحد.

المبادرة الوطنية بامتياز تصلح أساساً لنقاش وطني جدي ومسؤول بين القوى السياسية والحزبية الحاكمة بالفرض أو التعيين والمتحكّمة بالبلاد والعباد بقوة الأمر الواقع، أو القوة القاهرة التي أرادتها لتبقى متموضعة في أمكنتها السلطوية والحزبية والمالية وفي مواقع التأثير والقرار. مع أنّ مضمونها وعناوينها موجودة وخاضعة يومياً للسجال السياسي والإعلامي ولكن بالمفرّق وليس بالجملة كما أرادها الرئيس بري ووضعها في سلة واحدة، هذه السلة التي تمثل بالوجدان الشعبي والعادات والتقاليد القروية الخير والبركة لما تحتويه من خيرات الأرض ونتاج تعب الفلاحين. وللأسف فإنّ قوى سياسية معنية بالمشاركة والحوار حول مضمون هذه السلة الوطنية لا تفقة في القيم والمفاهيم الشعبية، أو لا تعنيها، وهي ستتعاطى مع الجانب السلبي فيها من خلال مسارب وفراغات يمكن الخروج منها بسهولة وقد لا توافق جموحها أو جنوحها الحزبي والسياسي، ولا تحقق «العز» الذي هي فيه وكأنه براءة اختراع لها أو ملكية خاصة مسجلة في «الطابو» ولا يمكن لزعاماتها أو قياداتها أن تتجاوب أو تتفاعل مع أيّ مبادرة تشعر أنها ستكون الخاسرة فيها لامتيازات حصلت عليها بالنصب والاحتيال وعلى حساب الشعب اللبناني أو جمهورها المعلب المسلوب الإرادة والحرية والحق في تحصيل حقوقه المصادرة.

والرئيس بري بحكم حنكته السياسية وحكمته ووطنيته العالية وتجربته الناجحة في الحكم يعرف قبل غيره أنّ قرار انتخاب رئيس جديد للجمهورية هو من خارج الحدود ماضياً وحاضراً وفي المستقبل وكأنه بات نصاً دستورياً أو حتى عرفاً في القاموس السياسي الداخلي، وهذا ليس خافياً بل باعتراف قوى سياسية وحزبية وازنة ولها تاريخها السياسي في لبنان، وهناك النقاش الدائر علناً حول انتخاب رئيس الجمهورية أولاً أو إجراء الانتخابات النيابية. والخلاف لا يزال قائماً وسيستمرّ على اسم الرئيس ووزنه ولا خلاف على طائفته لأنه حكماً من الطائفة المارونية الكريمة من دون منازع ولا ضرر في ذلك على أن يكون وطنياً ومسؤولاً عن وأمام كلّ اللبنانيين وأن لا يكون مرتهناً أو تابعاً وهذا يحتاج إلى تفصيل ليس وقته.

وكيف لمبادرة بهذا الحجم والأهمية أن تلقى الصدى المطلوب والعجز عنوان البحث عن قانون انتخاب وطني وتمثيلي وهذا ما ترفضه معظم القوى السياسية المدعوة للموافقة على المبادرة لأنها مصرّة على بقاء قانون الستين مع تعديل شكلي وبسيط لبعض بنوده أو إيجاد قانون يشبهه ونسخة مشوّهة عنه. وهذا يعني أنّ الانتخابات النيابية المقرّرة في العام المقبل إذا حصلت ستنتج نفس الطبقة السياسية الحاكمة ونفس الأسماء والوجوه النيابية التي هي في سباق مع الزمن والقدر لعجزها عن مواكبة المتغيرات المتسارعة على مستوى العالم، كما عجزت، أو معظمها حتى لا نظلم أحداً، عن فهم القوانين التشريعية والدور الوطني التمثيلي المنوط بالنائب المنتخب أو المعيّن أو الممدّد له وقد تحوّل معظمهم إلى ما يشبه ساعي البريد الذي من مهامه نقل الرسائل إلى أصحابها من دون معرفة محتواها وهكذا نواب الأمة التي لا صلاحية لهم في التشريع والتوظيف والخدمات لأنه مطلوب منهم مراجعة القائد أو من يمثله قبل الإقدام على أية خطوة أو قرار، وتحوّلوا إلى نجوم تسطع في المناسبات الاجتماعية التي لها علاقة بالموت واحتفالات التأبين والقيام بواجب التعزية وفق جدول بالأسماء التي رحلت إلى جوار ربها وبالقرى الموزعة على خريطة القضاء أو المحافظة التي يمثلونها، ولا ننسى رعاية الاحتفالات وتواقيع الكتب والأنشطة الرياضية والفنية… هذه أولوياتهم واهتماماتهم ولا شيء آخر.

فكيف وحال نوابنا على هذا الوضع أن يبقى قانون الستين المطلب الأول للقوى السياسية الحاضنة له ولا تودّ مفارقته مهما اشتدّت الأزمات وزادت الضغوط، وهو سينتج نواباً جرّبهم الشعب اللبناني على مدى ربع قرن ولم ير منهم سوى العقم وقلة الحيلة وانعدام الإرادة والقرار، ولا يرى وجوههم سوى في عطلة الأحد أو في مناسبات الأعياد حيث تشرع الأبواب وتنشط الضيافة والقبلات وكلمات الترحيب والمعايدة وتتزاحم الأسئلة عن الصحة والعائلة والعمل بشغف وحنان زائد على غير عادة، وكيف لحكومة مشلولة لا تجتمع إلا في الحالات الطارئة والمستجدّة أن تتفعّل وهي تحوّلت إلى فشة خلق ومكسر عصا لقوى سياسية وحزبية، وباتت عاجزة عن اتخاذ القرارات المصيرية الوطنية وتكتفي بإصدار القرارات والتعميمات وقبول الهبات وتشكيل الوفود المشاركة في المؤتمرات الخارجية وإنْ اتخذت قراراً وطنياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً يحتاج إليه اللبنانيون يبقى معلقاً في سجالات السياسيين حتى تذهب ريحه ويفقد مفعوله.

إنّ مبادرة الرئيس بري صادقة وضرورية وأحوج ما يكون لبنان إليها في مرحلة صعبة وخطيرة يمرّ فيها العالم المنطقة ولبنان، علّها تحصّن الجسم الداخلي أو تقلّل من الخسائر والتداعيات، ولكن لا حياة لمن تنادي لأنّ كلّ زعيم أو قائد يغنّي على موقعه ومصالحه ويحاول الاستفادة من الزمن المتبقي له في الدنيا وفي الحياة السياسية قبل الرحيل الأبدي، وهو يرتب أوضاعه وأفراد عائلته قبل المغادرة الأخيرة ليطمئنّ إلى أنّ إرثه السياسي والسلطوي والمالي والزعائمي سينتقل بسلاسة إلى الوارثين. هذا هو الواقع المرّ ولكن من المُحال أن يبقى الحال على حاله.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى