الرقة… حلب… جولات في سباق لم ينته
العميد هيثم حسون
شَهِدت الحرب على سورية مفاصل كثيرة ومسارات متبدّلة صعوداً وهبوطاً، مع نجاحات وإخفاقات لكلّ الأطراف في المجالات السياسية والعسكرية والأمنية.
إلا أنّ الحدث الأكثر تأثيراً في مسار الحرب هو الدخول العسكري الروسي بتاريخ 30/9/2015 الذي اتخذ شكل المفاجأة العسكرية والسياسية.
وفور إعلان القرار بدأت عملية النقل الاستراتيجي لمستلزمات تنفيذه وبسرعة أذهلت كلّ المراقبين. ولم تمض عدة ساعات حتى ظهرت القاذفات الروسية في سماء سورية، وبدأت بتنفيذ عمليات التغطية لحركة القوات البريّة السورية والتمهيد الناري أمامها.
لقد أحدث هذا القرار صدمة من العيار الثقيل في واشنطن وكلّ عواصم القرار المنضوية في حلف الحرب على سورية أفقدتهم القدرة على التصرف العقلاني، ورأينا ذلك في القرار الغبي للقيادة التركية بإسقاط الطائرة الروسية في الأجواء السورية 24/11/2015، وهذا كان صفة عامة لقرارات الدول الإقليمية.
أما حلفاء الصف الأول كفرنسا وبريطانيا وغيرهما فقد تصرفا بحكمة أكبر وبشيء من الدبلوماسية لتجنّب ردّ فعل قوي من روسيا، واعتمدت على تشويه نتائج عمليات موسكو وكأنّ طائراتها وصواريخها لا تستهدف إلا الأطفال والنساء.
في ذات الوقت بدأت الولايات المتحدة بتضخيم دور ونتائج عملياتها العسكرية ضدّ داعش بحملة إعلامية كبيرة تتحدث عن إنجازات تحالفه التي لا تصيب قذائف طائراته سوى «داعش». كان يحدث ذلك فيما القوات المسلحة العربية السورية وحلفاؤها يستثمرون بشكل كامل نتائج الدعم الجوي الروسي بتحقيق إنجازات ميدانية كبيرة في الريف الشمالي للاذقية وشمال وشرق حلب، مع حصول انهيارات لخطوط دفاع المسلحين في مناطق متعدّدة، هنا تدخلت واشنطن وتفاهمت مع روسيا على التهدئة الأولى في 27 شباط 2016 في ذروة نجاحات الجيش العربي السوري، وكانت لهذه الهدنة أهداف متناقضة لكلّ من روسيا التي رغبت بالظهور كراعية للعملية السياسية وليس العسكرية فقط والولايات المتحدة التي أرادت وقف انهيار المجموعات التي تدعمها.
فنقلت روسيا وسورية ثقلهما العسكري لاتجاه آخر غير مشمول بنظام التهدئة، لخضوعه لسيطرة «داعش» وهنا أيضاً كانت النتائج كبيرة فتمّ تحرير تدمر والقريتين ومناطق واسعة في البادية السورية، وهذا ما دفع الأميركيين للتعبير صراحة عن امتعاضهم من هذه العملية، وعلى لسان الرئيس أوباما شخصياً الذي قال إنّه غير سعيد لهذه الإنجازات الروسية ـ السورية.
ويبدو أنّ القيادتين السورية والروسية، أرادتا استثمار تلك النجاحات بالاندفاع شمالاً للوصول إلى السخنة ومنها الانطلاق باتجاه دير الزور أو الرقة مع خطة تمويه عملياتي سياسياً وعسكرياً.
في تلك الأثناء كانت واشنطن تسعى بكلّ جدية مع مجموعات مسلحة محلية، وأهمّها الوحدات الكردية لاستخدامها كقوات بريّة من أجل تنفيذ مهام عسكرية لتحقيق أهداف السياسة الأميركية، وأولها محاولة سبق الحلف الآخر في تحقيق إنجازات عسكرية أو إعاقة حركته وإفشال مساعيه، وما يحول دون ذلك عدم وجود قوات بريّة تعمل لصالح تحالف واشنطن المقتصر على القوات الجويّة والعناصر الاستخباراتية.
عند اعتراض تركيا بسبب الهواجس الناتجة عن الانتماء العرقي والتبعية السياسية لهذه القوات
قامت واشنطن بتطعيمها بمجموعات عشائرية من تلك التي تمرّدت على الدولة السورية وتعاونت معها سابقاً ومجموعات تابعة لجبهة النصرة، وبذلك تغلبت على تلك العقبة التركية. مع تلاعب بالألفاظ يدغدغ أطماع وطموحات الأحزاب السياسية الكردية وتسهيل اجتماع مكونات عرقية نتج عنه ما أسمته توجهات فدرالية. وبنتيجة ذلك كان ما سمّي «قوات سورية الديمقراطية» وأحضرت الخبراء العسكريين للإشراف على بناء وتدريب وتسليح وتأهيل تلك القوات، وسلّمتها أسلحة حديثة، ذات فعالية أكبر لصالح تلك المهمة.
وعندما رأت أنّ التوقيت أصبح مناسباً لتحقيق نصر سياسي وعسكري ولإحباط خطط الجيش السوري المستقبلية، والتي بدأت ملامح توجهها تظهر من خلال حشود عسكرية على ذلك الاتجاه أعلنت عن نواياها لشنّ عملية عسكرية لتحرير الرقة، متوقعة تحقيق نصر عسكري سريع يكون له تبعات سياسية محلية ودولية.
وتمّ نقل تلك القوات على وجه السرعة لشمال الطبقة، مع تمهيد ناري كثيف جوي ومدفعي من داخل تركيا.
ولكن تلك الحملة تكبّدت خسائر كبيرة ومُنيت بفشل ذريع لأسباب عسكرية تتعلق بالتوازن بين القوتين، والذي يميل لمصلحة «داعش» من حيث العدد والعتاد والعقيدة القتالية والتأهيل ومعرفة الأرض وتجهيزها.
فتمّ إلغاء العملية وتغيير وجهة تلك القوات للحفاظ عليها ومنع انهيارها ولحفظ ماء وجه واشنطن الذي أريق أكثره في حقول ألغام عين عيسى «الداعشية» واختير لها هدف يحقق ذلك، وهي مدينة منبج في ريف حلب الشمالي كجزء أيضاً من خطة السباق مع الجيش العربي السوري وحلفائه.
بالتزامن مع التحركات الأميركية كانت القوات المسلحة العربية السورية وحلفاؤها يجرون تحضيرات كبيرة في المنطقة القريبة من الحدود الإدارية لمحافظة الرقة.
وفي عملية تحدّ لحسابات الولايات المتحدة الأميركية وسباق متسرّع مع خطواتها تمّ إتخاذ القرار الكبير بالزحف شمالاً باتجاه الرقة، وحقق الجيش العربي السوري نجاحات بحجم الإنجاز وأشرفت قواته على مدينة الطبقة وعزلتها عن مطارها، إلا أنّ نتائج التسرّع وعدم الانتهاء من تحضير متطلبات وشروط النجاح في تنفيذ القرار ظهرت من خلال ثغرات تمكن من خلالها «داعش» الهجوم على مجنّبات القوات من عدة محاور لم يتمّ الانتهاء من تطهيرها.
هذا ادّى إلى توقف العملية العسكرية قبل تحقيق أهدافها، وبالتالي توقف السباق على هذا المحور لينتقل إلى محور آخر، فبانتقال القوات التي تشغلها واشنطن إلى جبهة حلب الاستراتيجية مع المبالغة في أهمية منبج عسكرياً، بدا واضحاً أنها تبحث عن نصر في هذا الاتجاه لتعويض فشلها السابق واحتلال رأس جسر في منطقة تشكل مركزاً لمناطق النفوذ والصراع، ليس المحلي فقط بل الإقليمي والدولي.
وهنا أيضاً أخذت تحركات القوى شكل السباق بين المحورين حيث تحرك الجيش السوري وحلفاؤه بشكل غير متوقع، وفتح جبهة حلب مدينةً وريفاً بالتزامن مع تمهيد ناري غير مسبوق، أدّى إلى انهيار بعض الخطوط الدفاعية للمسلحين داخل وخارج حلب، وهذا دفع الجيش العربي السوري للتحرك بالإستفادة من النجاحات المتحققة على الأرض فاستعاد مزارع الملاح وقطع طريق الكاستيلو وخرق على اتجاه الليرمون وصولاً إلى دوارها، وحصر بني زيد وتقدّم على أكثر من محور داخل أحياء المدينة في سباق تبدو نتائجه أفضل لمصلحة الجيش السوري.
أما في الطرف الآخر، الأميركي وأتباعه، ذلك المحور الذي يبدو أنه بدأ بحساب إمكانية الفشل مبكراً بعد إخفاق مجموعاتهم بتحقيق نصر يعتدّ به، وظهرت بوادر لنتائج معركة منبج مغايرة لتوقاتهم، فاختار اتجاهاً آخر للسباق بعملية إنزال جوي اعتقد الأميركيون بأنها ستكون نصراً مدوياً يربك حركة الروس والسوريين في مطار حمد بمدينة البوكمال السورية بمجموعات سمّوها قوات سورية الجديدة؟ فدوّت أخبار فشل تلك العملية بشكل لم يتوقعه أكثر المتشائمين، خاصة أنّ حجم التأمين القتالي الذي استخدمته الولايات المتحدة كان مبالغاً فيه لضمان النجاح، ولكن الفشل كان بحجم آمالهم.
هذه الجولة من السباق يبدو أنها فشلت قبل انطلاقها، وهذا يعني أنّ سورية الجديدة لن تكون على قياس الأميركيين ومن يعمل معهم، وأنّ السباق الأخير هو الذي حدّد خط بدايته الجيش العربي السوري وحلفاؤه بين دواري الجندول والليرمون في حلب، وهم من سيحدّد مسار جولاته المقبلة… وخط النهاية.