رصاصة
«غريبٌ أنتَ كبحرٍ يتقن فن المدّ والجزر، ومغرورةٌ أنا كليلٍ لا يبدي زينته للنيام…».
هكذا بدأت الحكاية، وما هي إلا أيام معدودة حتّى كثر الموج وزادت معه أحاديث الليالي. ساعات قصيرة بدقائقها، طويلةٌ بمشاعرها جمعت بحراً وليلاً كانت مجرد فكرة لقائهما ضرباً من الخيال. حكايتهما كانت أشبه بحلمٍ غريبٍ في ألوانه وأماكنه وتوقيته وسرعة أحداثه.
لن نطيل الحديث عن جمال البداية وتفاصيل الحكاية، بل سننتقل وبطلتها على عجلٍ إلى قسوة النهاية. كابوس سرقها من عمق نومها لتستيقظ مذعورةً كمن يسقط من أعالي الحلم إلى إسفلت الواقع الخشن، فتتهشّم عظامها الرقيقة وتتشوّه ملامحها الجميلة ويتمزّق قلبها الصغير.
يوم عرفت أن له حبيبةً أخرى، سامحته فهي لم تكن يوماً «حبيبته» ولم تكن صديقته. ببساطة حتى اليوم هي لا تعرف من كانت.
عندما غاب طويلاً وانشغل عنها كثيراً أو لربما نسي أنها متواجدةٌ على هذه الأرض تحت هذه السماء تسير وتتنفس وتشعر، سامحته فور عودته.
التقاها يوماً كغريبٍ لا يربطه بها أي ذكرى أو احساس، وجلس وإيّاها لساعاتٍ لولا نظرات الشاب الذي كان يجلس خلفه لها، كانت لتنسى أنّها أنثى جميلة. حديثه كان جافاً وقاسياً ومتوقّعاً تماماّ كتلك الأحاديث العابرة التي نتبادلها مع راكبٍ جلس إلى جوارنا خلال رحلة طويلة مضجرة. وبعد مدةٍ عاد بكلمات مطرزةٍ نفاقاً وحيلةً، فما كان منها إلّا أن تسامحه.
عندما بلغت به الأنانية أوجّها، استطاع بكلّ ما أوتي من مكرٍ أن يقودها بملء براءتها إلى سجنٍ لا قضبان له ولكنّه كفيلٌ بإبعادها عن سواه من الرجال، ليتركها فيه ويعد إلى من سمّاها حبيبةً. وعلى رغم ذلك، أغرتها فكرة أنّه لا يريدها أن تكون لسواه ونسيت أنه أيضاً لا يريدها له، فسامحته.
وفي تلك الليلة، حين جاءها يحكي بكلّ فخرٍ عن حبيبةٍ جديدة متباهياً بارتفاع عدد الضحايا إلى ثلاثة، أنصتت له راسمةً تلك الابتسامة الكاذبة ومخفيةً دموعاً كانت تذرفها ألماً. مجدداً وبكل غباءٍ، سامحته مقتنعةً أنه لا يحق لها عتابه. فمن لا لقب يربطها بآدم لا يحق لها معاتبته.
طال السهر وزاد الوجع واسودّت الدنيا في عينيها. باتت تذبل كوردةٍ زُرعت في صحراءٍ غيمُها لا يعرف الرحمة ورملها لا يبلله مطر. حاولت أن تنتفض وتثور وتعلن عصيانها العاطفي. أرادت أن تحكي، أن تخبر من اتهموها بالجنون عن سرّ جنونها، علّه يحقّ لها البكاء من دون أن تُتّهم بالضعف، ولكنها شرقيةّ تأبى أن يُنظر إليها بعيون الشفقة أو أن تّمدّ لها أيدي المواساة. فكان عزاؤها الوحيد أنّه سيبقى في قلبها سرّاً جميلاً قد تلقاه من حين إلى آخر وإن كغريب. وهكذا قرّرت الرحيل من دون عودة.
ولكن، على ما يبدو أن آدم لم يكتفِ تنكيلاً بروحها، فهو شديد الحرص على تركها جثةً هامدةً لا بصيص حياةٍ فيها. وهنا قرّر حضرته أن يستخدم أكثر أسلحته رجعيةً وأقساها حدّاً ومضاءً، فطفق يروي الحكاية لمن حرصت هي على إخفاء الأمر عنهم حفاظاً على عهدٍ قطعته أنثى لرجلٍ هو نفسه لم يحفظه.
وفي نهاية النهاية، ولكي يكتمل مشهد الرجولة والشهامة والشجاعة، قال بشفتين لا يعلوهما شاربٌ: «بالطبع لن أحكي تفاصيل الحكاية، فسمعة البنت تشوَّه إن عُرف أنّها كانت تحادث شاباً بعد منتصف الليل وتحاول استدراجه إلى شباك أنوثتها».
لأجله، هزمَت مشاعر غيرة وغضب وألم كانت تنتشر في روحها كالصدأ، على رغم أنه ولفرط جُبنه وأنانيته لم يخض لأجلها ولو جولةً واحدة. ويوم قرر إشهار سلاحه، أطلق رصاصة «السمعة» نحو قلبها وأرداها قتيلةً. ولكن عذراً يا آدم، لن تستطيع تلك الفتاة الشرقية التي خاضت كل تلك المعارك بدافع الحب أن تفوز معركةً أخيرةً خصمها فيها كرامتها. عذراً، فيوم يصبح الحديث عن الشرف والكرامة لا سيما أمام جمهورٍ استحضرته أنت، تخرس كل النبضات وتستسلم أعمق المشاعر أمام جبروت الكرامة وتصبح المسامحة مستحيلةً.
آلاء ترشيشي