«داعش» في سورية… مشروع انتحار جماعي
فؤاد عيتاني
بعد انطلاق ماكينة القتل الإرهابية والارتباكات الدموية والتردّدات الدولية، ومع الصعود المدوّي والخطير لـ«داعش» الدولة الإسلامية في العراق والشام والنصرة والعناصر «الجهادية» تنحبس «الثورات العربية» ويطول أمدها لفترة غير معلومة لا يبدو منها سوى حقيقة واحد هي مأساة الإنسان العربي.
كان إعلان داعش/فرع القاعدة المتأخر في سورية في 10 نيسان سنة 2012، بعد يوم واحد من استتباع فرع القاعدة في العراق على لسان أميره أبو بكر البغدادي لجبهة النصرة بقيادة أبو محمد الجولاني، لكن الأخير لم يقبل، فحدث انقسام لتضمّ النصرة غالبية السوريين المقاتلين معها، وينشقّ عنها 70 في المئة من عناصرها مؤسّسين لداعش بقيادة مباشرة من أبي بكر البغدادي، ويقدّر المنشقّون المؤسّسون لداعش بحوالي 12 ألف عنصر مقاتل تقريباً.
تنتشر «داعش» في المناطق الشمالية الشرقية من دير الزور إلى الرقة فالحسكة والمنطقة الكردية، مروراً بشمال سورية متضمّناً شمالي مدينة حلب امتداداً نحو ريف اللاذقية الشمالي في الشمال الغربي لسورية وصولاً إلى الحدود التركية لتكون حدود نواة هذه الدولة المرتبطة بمدّ أمني وثقل عسكري موجود في محافظة الأنبار العراقية المتصلة بمنطقة دير الزور السورية لناحية اتصال الحدود البرية، وتتخذ هذه المنطقة وفق رؤية وخطة عمل القاعدة أسم «الدولة الاسلامية في العراق والشام».
تضمّ داعش في غالبيتها مقاتلين أجانب، وأخذت تتمدّد في المناطق القريبة من تركيا واصطدمت بالعديد من الفصائل الأخرى، ولكن الأخطر هو سعيها لأسلمة المناطق التي تسيطر عليها وممارسات التمييز ضدّ المسيحيين فيها والأقليات الدينية على اختلافها.
وتقيم داعش للأهالي خيماً دعوية في هذه المناطق، تتبنى خطاباً متشدداً ينتمي للسلفية الجهادية، ويلهج عناصرها بلكنات غير عربية أحيانا وتمارس تسلطية دينية في المناطق التي تسيطر عليها، ففي مدينة الرقة هاجم عناصر داعش الكنائس وحطموا صلبانها وخرج سكانها على إثر ذلك في مظاهرة تندّد بهذه التصرفات التي ترتكبها هذه الجماعة.
تتمدّد داعش كذلك في منطقة جبل الأكراد في الساحل السوري، وتعلن قرى معينة كمناطق عسكرية مغلقة، و«يتصرف عناصرها كما يحلو لهم ويسيئون للمدنيين»، وذلك «بدعوى الأمر بالمعروف»، وفق ناشطين يقيمون في المنطقة.
ويعمد عناصر «داعش» في هذه المناطق إلى منع الفتيات من اللعب وإجبارهن على العودة إلى بيوتهن لارتداء الحجاب. كما يمنعون الناشطين من التصوير والتنقل، ويفتشون السيارات بذريعة تأمين القرى.
وفي تقرير لها بتاريخ 11 تشرين الأول 2013 اتهمت «هيومان رايتس ووتش» داعش وعناصر من جماعات مسلحة أخرى، بارتكاب جرائم حرب خلال هجوم شنته في آب 2013، وأنّ المسلّحين الإسلاميين المنتمين إليها، قتلوا أكثر من 190 مدنياً واحتجزوا اكثر من 200 رهينة عندما سيطروا على مجموعة من القرى العلوية في اللاذقية بالقرب من الحدود التركية.
معارك داعش مع الفصائل الأخرى
لم تخدم داعش والنصرة أحداً وقلّلت من ثقة أطراف دوليين وإقليمين من قدرة المعارضة السورية على إدارة البلاد بعد مرحلة ما يُسمّى إسقاط النظام في سورية نظراً للاقتتال الدائر الذي تقوده داعش ضدّ غيرها من الفصائل المسلحة وأيضاً ضدّ ما يُسمى الجيش الحر ورغبتها المستمرة في التمدّد والاتساع، حتى تحوّلت تهديداً للباب المفتوح على الحدود التركية، وتهدّد بغلقه! بعد تحرّشها بالقوات التركية على الحدود أكثر من مرة.
بل لم تسلم منها حتى جبهة النصرة القاعدية التي استهدفت داعش أحد مقراتها في مدينة الشدادي بالحسكة شمال سورية، ولأول مرة في أيلول الماضي واختطفت قائد جبهة النصرة في محافظة الرقة بعد أن قامت بنصب كمين له في منطقة دير حافر في الريف الحلبي والذي تسيطر عليه داعش وكلّ هذه المواجهات بين اهمّ فصيلين للقاعدة تأتي بعد دخول جبهة النصرة محافظة الرقة وانضمام كلّ من لواء «ثوار الرقة» ولواء «المنتصر» إلى النصرة، كما استهدفت عناصر من لواء عاصفة الشمال التابع للجيش الحرّ في تاريخ مقارب واخترقت هدنة عقدت بينهما في 21 أيلول2013.
فقد تجاوزت المعارك المناوشات الخفيفة إلى حدّ الحصار الكامل والسيطرة على قرى كاملة، إذ سيطر الجيش الحرّ على 11 قرية بريف حلب بعد معركة ضارية مع أنصار تنظيم دولة العراق والشام.
كما دخلت قوات الحماية الشعبية الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي في مواجهات مسلحة محتدمة في حلب مع مقاتلي جبهة النصرة والدولة الإسلامية في العراق والشام في منطقة الشمال شرق سورية بالقرب من معبر رأس العين الاستراتيجي.
ووصل الصراع أيضاً إلى درجة استهداف واغتيال القيادات، ومن هذه المعارك التي يمكن الإشارة إليها:
ـ في 12 تموز2013، قامت عناصر من تنظيم دولة العراق والشام باغتيال عضو المجلس العسكري الأعلى للجيش السوري الحر كمال حمامي، المعروف باسم أبو بصير الجبلاوي بريف اللاذقية، وهو ما اعتبره الجيش الحر بمثابة «إعلان للحرب».
ـ في 24 أيلول2013 قتل أبو عبد الله الليبي أمير تنظيم دولة العراق والشام في مواجهات مع الجيش الحر في منطقة الدانا في إدلب.
كما شاهدنا في 28 أيلول2013 محاولة داعش لغزو اعزاز التي كان يسيطر عليها لواء عاصفة الشمال، والتي انتهت بخروج لواء عاصفة الشمال خارج مدينة اعزاز، وتعدّ اعزاز المنطقة الأكثر إنتاجاً للنفط بالقرب من الحدود التركية، كما تحارب داعش على أكثر من جبهة سواء ضدّ الفصائل السورية الأخرى أو مع الجارة التركية التي تتبع سياسة الباب المفتوح ضدّ السوريين ويبدو أنّ داعش ستغلقه بهذه الطريقة!
داعش… وحدود تركيا
ظهور داعش في أجزاء من شمال سورية على الحدود التركية شكل تهديداً أمنياً على حدودها المعرّضة للخطر أصلاً، وترك تساؤلات حول تأييدها الشامل للمعارضين الذين يقاتلون النظام السوري على اختلافهم من دون تمييز، ويبدو أنّ تحرك تركيا في هذا الاتجاه يمثل تطوراً جوهرياً في مواجهة فرع القاعدة في سورية، لخبرتها في مواجهة العمال الكردستاني، فضلا عما ذكرته مصادر تركية في تقرير للمخابرات التركية أنّ نحو 500 تركي يقاتلون ضمن 1200 جماعة معارضة في سورية أغلبها تحمل اسم الجهاد في حين يعمل آخرون كمرتزقة يتقاضون 1500 دولار شهرياً، وأضاف التقرير أنّ هناك أيضاً أعضاء في حزب العمال الكردستاني ذهبوا للقتال في صفوف أكراد سورية.
كذلك تواردت أنباء أنّ داعش أرسلت مئات المقاتلين إلى الشمال المحاذي لتركيا ردّاً على إغلاق الأخيرة لبعض المعابر الحدودية، لكن أي تحرّش لداعش بتركيا سيثير غضب قواتها المسلحة التي تتمتع بقدرات عسكرية ضخمة. وفي الحقيقة، ليست أنقرة سوى أحد الأطراف العديدة التي تتمنى الدمار لتنظيم داعش لكنها تسكت حالياً، و تحشد كلّ العداء للنظام الوطني في سورية.
وإذا استمرّ هذا التنظيم في قتال العديد من التظيمات الأخرى على جبهات عدّة، فإنه سيكرّر في النهاية الأخطاء التي ارتكبها تنظيم القاعدة في العراق، الأمر الذي سيؤدّي إلى عزله وفقدانه لجميع ما حققه خلال المواجهات الدائرة حالياً في سورية والعراق.
داعش عدو نفسها
سواء كانت قيادة تنظيم داعش مركزية أو محلية فإنّ عدوانها على جبهات متعدّدة وضدّ أطراف عدّة بلا هوادة سيوقعها في فخ القتال من أربعة جهات إضافة إلى الجو.
فهذا التنظيم لديه انفلاش أفقي غير منضبط في العراق ويقاتل أيضاً ضدّ النظام السوري والقوات الكردية والفصائل العلمانية المدعومة غربياً في سورية. بل انفصل نهائياً عن «النواة الصلبة» لتنظيم القاعدة.
ومن شأن الاستمرار في هذه الحرب المتعددة الجبهات أن يشتت قدرات داعش وأن يؤجّج العداوات التي ظهرت ضدّها مؤخراً مما قد يؤدي الى المنحى العدواني المتزايد والمهووس إلى فقدان «الإنجازات» التي حققها في سورية والعراق، وذلك على غرار ما حدث لتنظيم القاعدة في العراق في عام 2006.
ساهمت ممارسات داعش العدوانية المجرمة في تعزيز موقع النظام السوري، وأكدت صوابية مساره السياسي والأمني، لأنّ تدخّلها في النزاع قلّص التأييد الغربي لما يُسمّى «الثورة السورية» بشكل كبير وبرّر تردّده، ولكن في النهاية تبدو داعش أكبر عدو لنفسها طموحاً وغربة واغتراباً عن المجتمع المشرقي بأسره وحافزاً استراتيجياً للجيش العربي السوري لتسجيل نصر كوني على حرب عالمية شنتها عليه مئة دولة تقلصت مؤخراً بـ»داعش» المتوجهة إلى الانتحار على أرض الشام.