تقرير

كتب بيهلول أوزكان لـ«هوفنغتون بوست»: في العقود السبعة التي تلت انتقال تركيا عام 1946 إلى الديمقراطية متعدّدة الأحزاب، كانت البلاد مسكونة دائماً بشبح الانقلابات العسكرية. وقعت أربعة انقلابات عسكرية ناجحة خلال هذه الفترة، وثلاث محاولات انقلابية فاشلة ومؤامرات محدودة لا حصر لها. مساء يوم الجمعة، حاول فصيل داخل الجيش التركي تنفيذ أول انقلاب كبير في تركيا في القرن الحادي والعشرين.

وتلت ذلك ليلة من الاضطراب المستمر. احتل الانقلابيون مطار اسطنبول وعدداً من الجسور إضافة إلى مكاتب «CNN» التركية ومحطة التلفزة الحكومية، والراديو التركي وقناة «TRT». كما احتجزوا رئيس هيئة الأركان المشتركة رهينة وحتى أنّهم ذهبوا بعيداً إلى قصف البرلمان في أنقرة بطائرات حربية ومروحيات. ولكن الانقلاب قُمع، ولكن ليس قبل مقتل 290 شخصاً، من بينهم مدنيون وعناصر من قوات الأمن. بالكاد هدأت الأمور حتى تم اعتقال 6000 جندي. من بين 358 جنرال في الجيش، 70 منهم ـ أي خمسهم ـ إما أنهم احتجزوا أو اعتقلوا، وهناك عدة آلاف من القضاة في البلاد أعفوا من مناصبهم.

بتصرف خارج عن سلسلة القيادة، تحرك المتآمرون مثل فصائل كثيرة في الجيش التركي التي حاولت الاستيلاء على السلطة خلال الستينات. إذا كان تاريخ تركيا الحديث يؤشر إلى أيّ شيء، فإن هذا الانقلاب الفاشل سوف يقود إلى هزة كبيرة في هيكل الجيش. ربما يقود أيضاً إلى المزيد من تآكل حكم القانون في تركيا، الذي يتعرض للخطر فعلاً. كل من حزب العدالة والتنمية الحاكم وأحزاب المعارضة الأخرى يعون ذلك فعلاً. وقد أصدروا بياناً مشتركاً لنصرة الديمقراطية وشجب الانقلاب.

تهوّر المتآمرون وتوجّهوا إلى التكتيكات الخطرة كما أطلق عليها أوميت دودنار بسبب عدم وجود تخطيط ومستوى معين من الإحباط وكل ذلك بحاجة إلى توضيح. على الأرجح، اكتشفوا أن زمرة من الضباط داخل الجيش مرتبطة بحركة غولن، وهي جماعة سنّية بارزة، سوف يتم اعتقالهم نهاية الأسبوع. مدركين أن الوقت ليس في صالحهم، قرر المتآمرون تنفيذ انقلاب بطريقة كاميكازية انتحارية ، كما يشير عدم التخطيط الجيد، وسوء التوقيت والأخطاء الاستراتيجية. كثيراً ما يصف أردوغان تحقيقات الفساد التي أجريت في كانون الأول 2013 ضدّه وضدّ رفاقه على أنها محاولة انقلاب من قبل جماعة غولن داخل الشرطة والسلك القضائي، ومنذ ذلك الوقت مئات من الجنود والمدعون العامون والقضاة اعتقلوا وطردوا من مناصبهم. منذ شهور، ووسائل الإعلام التركية تشير إلى أن عناصر من جماعة غولن داخل الجيش هم القادمون على القائمة.

في التسعينات، بدأت حركة غولن بالتحول لتصبح موجودة في مجالات التعليم، والبنوك والإعلام والقطاعات الأخرى في العقد التالي، حصلت على موطأ قدم تنظيميّ قوي في الشرطة والقضاء والجيش والاستخبارات. ظاهرياً تعتبر الجماعة منظمة من المجتمع المدني، ولكنها تضمّ داخل جناحها قوات من الأمن والاستخبارات التي لا تتبع بولائها للدولة ولكن لزعيمها، فتح الله غولن، الذي يعيش في الولايات المتحدة منذ عام 1999. اليساريون والعلمانيون كانوا يقولون ومنذ عقود إن حركة غولن، التي تهدف إلى الإطاحة بالنظام العلماني التركي، تمثل تهديداً للأمن القومي. ويعتقد الكثيرون إن غولن كان متردّداً في العودة إلى تركيا بسبب مخاوف من خضوعه للمحاكمة.

يؤكد أردوغان الآن أن جماعة غولن متورطة في محاولة الإنقلاب، التي وصفها بأنها دعمت وشجعت من قبل التنظيم الموازي. مجموعة مرتبطة بجماعة غولن وتحمل قيمها نفسها نفت أي تورط لها في محاولة الانقلاب. أشار خبراء عسكريون إنه وفي حين أن جماعة غول تملك ضباطاً رفيعين في الجيش تعرضوا للاعتقال، إلا أن هناك فصائل ذات أقلية من غير جماعة غولن شاركت أيضاً، إضافة إلى أشخاص تصرفوا بطريقة انتهازية. أعلن أردوغان أنه سوف يتم تطهير جماعة غولن من الجيش ومن المؤسسات الرسمية الأخرى وفي الأماكن التي أصبح لهم وجود راسخ فيها.

أي شخص يجهل السياسات التركية يمكن أن يغفر له عدم علمه أنه وحتى عام 2013 أي حوالى 14 سنة من حكم حزب العدالة والتنمية كانت جماعة غولن من حلفاء أردوغان المقربين. منذ عام 2008، قامت جماعة غولن وبمباركة من أردوغان باعتقال المئات من الضباط الذين يعرف بأنهم علمانيون معادون للحكومة. في التحقيقات والمحاكمات التي تلت ذلك والتي عرفت بِاسم إرجنكون وباليوز اتهم هؤلاء الأشخاص بالتخطيط لتفجير المساجد في اسطنبول ونشر الفوضى بصورة عامة. ومنذ ذلك الوقت ادّعى أردوغان أنه تعرّض للخداع والتضليل من قبل أصدقائه القدماء، وهو تفسير مبسط لما حدث عام 2013، حيث أصبحت جماعة غولن قوية جداً وعاشت فترة طويلة جداً.

إذا كان من شأن التحقيقات التي أجريت عام 2013 إحداث الضرر في علاقة جماعة غولن مع أردوغان، فإن محاولة الإنقلاب يوم الجمعة حوّلت غولن إلى العدوّ الأول للجماهير. يعتقد أن أنقرة حالياً تعمل على إتمام طلب رسمي لتسليم رجل الدين هذا. أشار سليمان سويلو وزير العمل والأمن الاجتماعي التركي إلى أن الولايات المتحدى تقف خلف الانقلاب ويجب أن تسلم فتح الله غولن. وزير الخارجية الأميركي جون كيري ردّ بأن الولايات المتحدة سوف تقوم بكل ما يجب أن تقوم به إذا قدّمت تركيا أدلة على حدوث أي مخالفات. إذا اهملت تركيا القيام بذلك ورفضت الولايات المتحدة تسليم غولن، فإن العلاقات بين الدولتين ربما تسوء خلال الأشهر المقبلة. ولكن المشكلة الكبيرة في هذا الخصوص أنه من المستحيل أن نعرف من هو من جماعة غولن ومن لا يتبع له، لأنها ليست منظمة رسمية ثمة قائمة بعناصرها. اتهام أي شخص بكونه من جماعة غولن أمر، وإثبات ذلك أمر آخر.

في هذه الأثناء، فإن تركيا في خضم أزمة قومية غير مسبوقة. محاولة الانقلاب يوم الجمعة ضدّ أردوغان ليست سوى أحدث حلقة في سلسلة من ملحمة طويلة من الاضطراب السياسي والاجتماعي. حرب تركيا ضد حزب العمال الكردستاني مستمرة في جنوب شرق البلاد في حين يشن «داعش» حملة من التفجيرات والقصف في مدن البلاد. التكيكات التي سمحت لأردوغان بالاحتفاظ بالسلطة حتى الآن ـ تشكيل تحالفات استراتيجية موقتة ـ لا يمكن أن تحلّ مشاكل من هذا الحجم. كما لا يمكن لخطة أردوغان للحصول على المزيد من الصلاحيات والسلطات لنفسه من خلال تغيير الدستور وإقامة نظام رئاسي في تركيا أن تنجح. الطريقة الوحيدة لإيقاظ ديمقراطية تركيا من سباتها هو القتال من أجل إعادة تكريس المبادئ العالمية المتعلقة بحكم القانون وحرية الصحافة والحريات الشخصية ـ بغضّ النظر عن البعد الذي يبدو عليه هذا الهدف.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى