«إسرائيل» لصّ بمرتبة قاضٍ!

إنعام خرّوبي

قد يكون تقليص «إسرائيل» كميات المياه لعشرات آلاف الفلسطينيين في الضفة الغربية، منذ بداية الشهر الماضي، لينعم مستوطنوها بوفرة المياه، في حدّ ذاته خبراً عادياً بالنسبة إلى دولة احتلال تمارس شتى أنواع سياسات التضييق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعسكري بحقّ الشعب الفلسطيني، إلا أنّه، في المقابل، يثير من جديد موضوع سرقة المياه في المنطقة العربية وسط صمت دولي فاضح يسانده صمت بعض الدول العربية. وبحسب إحصاءات الأمم المتحدة، فقد حدّدت «إسرائيل» ما يتراوح بين 10 و15 ليتر من المياه يومياً للفلسطيني، مقابل 300 ليتر للمستوطن.

مما لا شك فيه أنّ هناك جذوراً لما يحصل اليوم. وكما هو معلوم، فهناك خطة استراتيجية تهدف إلى سرقة مياه البلدان العربية، نظراً إلى أنّ الأطماع «الإسرائيلية» ومطالبات الحركة الصهيونية في هذه المياه التي لا تتوقف عند حدّ بالأراضي العربية على نحو قديمة، اسوة بمطالباتها مشابه. يذكر التاريخ، كيف أنه، وفي العام 1837، أرسلت بعثة بريطانية إلى الأراضي الفلسطينية لدراسة حجم الموارد المائية الموجودة فيها. وتوصلت تلك البعثة إلى نتيجة مفادها أنه إذا تمّت الاستفادة من كلّ الطاقات المائية الموجودة، فإنّ المياه متوفرة في هذه المنطقة وبالتالي هي قادرة على استيعاب أكثر من ستة ملايين نسمة. كما أنّ مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل قال في مؤتمر تأسيس الحركة عام 1897 «إنّ المؤسِّسين الحقيقيين للأرض الجديدة القديمة هم مهندسو المياه، فعليهم يعتمد كلّ شيء في تجفيف المستنقعات وريّ المساحات الجديدة وإنشاء محطات توليد الطاقة الكهربائية».

إذاً، وبناء على ما سبق، من البداهة القول إنّ توفر المياه كان شرطاً استراتيجياً أساسياً لقيام ما تسمى اليوم دولة «إسرائيل»، وما يؤكد ذلك أنّ الحركة الصهيونية كانت رافضة تماماً لاتفاقية «سايكس ـ بيكو». فعندما بدأت صياغة هذه الاتفاقية بدأت حركة المراسلات بين الحركة الصهيونية وبين البريطانيين والفرنسيين، حيث طالب الصهاينة حينها بأن تضمّ حدود فلسطين مدينة صيدا ونهر الليطاني وكلّ ينابيع المياه نحو الأردن والموجودة في جبل الشيخ ومنطقة حوران، لأنّ هذا الأمر أساسي وحيوي لقيام الدولة المزعومة.

دور الاستعمار القديم، الذي سقطت «أوهام عظمته» في رمال سيناء قبل نحو ستين عاماً، في ملف المياه، يكاد لا يخالف في شيء دور قوى الهيمنة والاستعمار الجديد، التي اعتادت أن تقدّم على الدوام طوق النجاة لـ»إسرائيل»، كما رأينا مؤخراً حينما جرى اختيار دولة الاحتلال على رأس لجنة القانون الدولي في الأمم المتحدة، وفي تعطيل مثول وزيرة خارجية الاحتلال السابقة تسيبي ليفني أمام المحاكم البريطانية، على خلفية تهم بارتكاب جرائم حرب خلال العدوان على غزة أواخر العام 2008. فالرسائل والمخطّطات المائية المشار إليها، سبقها إعطاء امتيازات لشركات مياه يهودية في المنطقة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، في العام 1921 أعطي امتياز لشركة يهودية لاستغلال مياه نهر الأردن وجاء في نصّ الامتياز أنه «لا يُسمح لأيّ شركة أو فرد استعمال مياه نهر الأردن ومياه نهر اليرموك لأيّ غرض إلا بالاتفاق مع الشركة المذكورة». وهناك امتياز آخر يتعلق بالبحر الميت الذي يحتوي على الأملاح الثمينة والذهب، لتتوالى بعد ذلك الامتيازات التي فرضها المستعمرون، لتسهيل بناء كيان الاحتلال.

وبما أنّ الأمن المائي هو شأن استراتيجي وحيوي بالنسبة إلى «إسرائيل»، فقد سيطرت على أكبر محور مائي عربي تبلغ سعته قبل أن يصل إلى بحيرة طبريا 4 مليارات و300 مليون متر مكعب من المياه سنوياً وهو محور ضخم، يقع تحت سلطة الاحتلال الكاملة في الجولان ونهر الأردن والضفة الغربية، بالإضافة إلى جزء من المياه اللبنانية. ففي الضفة الغربية، على سبيل المثال، هناك ثلاثة أحواض تحوي بمجملها 860 مليون متر مكعب سنوياً، واليوم من هذه الأحواض الثلاثة لم يبق شيء يذكر للفلسطينيين، بالإضافة إلى حصة تعود لهؤلاء، كونهم شركاء بنهر الأردن والبالغة نحو 320 مليون متر مكعب التي سيطرت عليها «إسرائيل» بالكامل.

أما بعد عدوان 1967، فقد اتخذ موضوع سرقة المياه منحى أخطر وأسوأ، حيث واصلت «إسرائيل» انتهاكاتها في مجال المياه وعرف ذلك العدوان بـ»حرب غنائم المياه»، التي استطاعت من خلالها السيطرة على كافة منابع وموارد حوض نهر الأردن وعلى أحواض المياه الجوفية الفلسطينية بشكل شبه كامل. وما كانت قد استولت عليه «إسرائيل» في الخفاء، ثبتته بـ»القانون»، كما تتذرّع. فهناك إجراءات «إسرائيلية» صدرت بعد هذا التاريخ تمنع الفلسطينيين من الاستفادة بليتر واحد من مياه نهر الأردن، كما تحظر عليهم حفر أيّ بئر، فضلاً عن قيام الاحتلال بتدمير 162 بئراً في منطقة الضفة الغربية كلياً. ومما تنص عليه تلك الإجراءات هو أنّ كافة المياه الموجودة في الأرض التي تمّ احتلالها هي ملك لـ «دولة إسرائيل»، وبأنه يمنع منعاً باتاً إنشاء أي منشآت مائية جديدة من دون ترخيص من «ضابط المياه» الذي عيّنته «إسرائيل»، كما تقضي بوضع جميع الآبار والينابيع ومشاريع المياه تحت السلطة المباشرة للحاكم العسكري «الإسرائيلي». نفذ «الإسرائيليون» هذه الإجراءات وحرموا الفلسطينيين من حقهم في المياه، وقاموا ببناء المستوطنات في الضفة الغربية على الأحواض المائية كما عمدت دولة الاحتلال داخل الخط الأخضر إلى حفر 500 بئر عميق لسحب المياه الجوفية من الأحواض في الضفة الغربية.

بالإضافة إلى ذلك، فإنّ جدار الفصل العنصري الذي بنته «إسرائيل» عام 2002، هدم بمنشآته الكثير من الآبار وشبكات المياه في الضفة الغربية 23 ألف متر من شبكات المياه ، بالإضافة إلى إغلاق الآبار التي كانت داخل الجدار، كما منعت «إسرائيل» استخدام الآبار القربية من الجدار، فأصبح نقص المياه لدى الفلسطينيين فادحاً ومرعباً نتيجة هذه الإجراءات. وكعادته، لم يجد المجتمع الدولي أمام هذا الواقع سوى تكرار عبارات الإدانة الخجولة وغير الفعّالة ضدّ «إسرائيل» التي نفذت ما أسمته «المشروع الوطني الكبير»، والذي يقضي بجرّ المياه من شمال بحيرة طبريا إلى صحراء النقب عام 1964. ومن المعلوم أنه، في العام 1964 دعا الرئيس المصري جمال عبد الناصر إلى قمة عربية تمّ الإعلان خلالها عن مشروع لحماية مياه نهر الأردن، قبل أن تبادر «إسرائيل» إلى قصف المنشآت العائدة لهذا المشروع، من دون أن يكون هناك أيّ ردّ فعل على هذا القصف، الذي عدّه مراقبون حينذاك تمهيداً لحرب العام .1967

بالنسبة إلى لبنان، ليس خافياً أنّ هناك مياهاً لبنانية مشتركة مع فلسطين المحتلة، فيما تفيد تصريحات المسؤولين الرسميين في لبنان بأنّ هناك 150 مليون متر مكعب هو حجم تلك المياه المشتركة عبر نهر الحاصباني ونبع الوزاني. أما الدراسات الفعلية على الأرض فتشير إلى نتائج مغايرة، حيث يشير بعضها إلى أنّ هذه المياه ليست وحدها المشتركة بل هناك المياه الجوفية أيضاً، ويقدّر حجم هذه المياه بنحو 300 مليون متر مكعب، فيما تشير أخرى إلى أنها 427 مليون وهذا ما يعكس تقصير الدولة اللبنانية حيال هذا الملف. وتفيد المعلومات، أنّ «إسرائيل» تتعدّى على هذه المياه عبر مضخات قوية من المنطقة المحاذية للحدود، وتقوم بسحب المياه بشكل غير شرعي يومياً من بحيرة تحت منطقة سهل الخيام مرجعيون. وهناك معلومات غير محلية، لا تقلّ خطورة، تتحدث عن نفق مائي أنشأته «إسرائيل» يمتدّ تحت الأراضي المحتلة في الضفة الغربية مروراً بقرية دير ميماس وصولاً إلى منطقة الخردلي، وللأسف لا أحد يذكر هذا الموضوع. أما في الجولان، فالقضية معقدة، لأنّ كلّ الينابيع ومياه الأنهر مسروقة ومسيطر عليها من قبل دولة الاحتلال التي لم يجد ما يسمّى «المجتمع الدولي» سواها لتكليفها بمهمّة بحجم رئاسة اللجنة القانونية في الأمم المتحدة. في الأمر، مؤشر على حقيقة راسخة مفادها أنّ المؤسسة المُفترض بها أن تكون منبراً لـ «الضمير العالمي» باتت تحتاج بدورها إلى من يخلع عليها ضميراً، أو يعرّي صورتها المزيفة القائمة بغير حقّ وبغير ضمير.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى