جمال عبد الناصر… القضية ليست الوحدة
ناصر قنديل
– لسبب لا يفسّره سوى المفهوم الرومنسي للعروبة أو الطابع السجالي للخطاب العروبي دفاعاً عن المفهوم القومي لها، أو الميل لدى البعض لتبرير مفهوم التضامن العربي السيّئ الذكر وربطه بصورة مشرقة بحجم عبد الناصر، يركز القوميون العرب أو منتحلو صفتها على البعد الوحدوي لشخصية ومرحلة جمال عبد الناصر، ويصلون إلى حدّ اعتبارها القضية المركزية في مشروعه، والسبب الجوهري لتصادمه مع الغرب، ويربطون بها جاذبية خطابه وشعبيته الساحرة على مساحة الوطن العربي، بينما يكشف التدقيق في سيرة جمال عبد الناصر أنه على مستوى الحركة الخارجية نحو البلاد العربية، منح قضية التغيير في أنظمة الحكم والصدام مع الرجعية الأولوية على مفهوم الوحدة الذي صار بعد رحيل عبد الناصر تحت مسمّى التضامن العربي، أيّ القول بأنّ تلاقي حكومات الأنظمة العربية بحدّ ذاته نعمة، مهما كان مضمونه، بينما منح عبد الناصر للوحدة بعداً مشروطاً بمفهومها ومضمونها التقدّمي والتحرّري، فقاتل الأنظمة الرجعية وعلى رأسها السعودية ورفض مهادنتها، بينما صارت المهادنة مع السعودية ومن معها من الرجعيين والتابعين للغرب بين العرب شرطاً لمفهوم التضامن الذي قدّم كأنه تعبير عن الحدّ الأدنى من الوحدة، أو الترجمة الواقعية للمفهوم القومي.
– ها هي تجربة سورية التي قدّمت الكثير من التنازلات داخل الجامعة العربية للحفاظ على وحدة موقف عربي بالحدّ الأدنى، وتبنّت لزمن غير قصير مفهوم التضامن العربي تكتشف أنها أهدرت جهودها بلا جدوى، وأنه عندما صار وجودها عبئاً على الوظيفة السياسية الرجعية والملتزمة بالمشاريع الغربية للجامعة العربية وضعت سورية خارجها، واستخدمت الجامعة غطاء لطلب التدخل الخارجي في ليبيا وسورية دون أن يرفّ جفن للقيّمين عليها، حتى توصلت سورية مؤخراً للتصريح بأنها غير معنية بالعودة إلى الجامعة، ولا تتطلع إلى هذه العودة، مصحّحة مجدّداً مفهوم الوحدة المشروط بمضمون تقدّمي وتحرّري، هو الذي جعل عبد الناصر يذهب إلى الوحدة مع سورية، رغم تواضع التجربة، أو ما تلاها مع ليبيا والسودان، وما أدّى تالياً لفشل هذه التجارب، مقابل المواجهة مع حكم نوري السعيد في العراق حتى سقوطه وسقوط حلف بغداد الذي شكلته واشنطن، وحرب مع السعودية في اليمن.
– الإنطباع بأنّ أيّ شكل من التضامن والتنسيق بين الحكومات العربية يثير حفيظة الغرب، لأنه لا يتحمّل سماع كلمة وحدة مبالغة كبيرة، فالمملكة العربية السعودية ولدت بحاصل توحيد إمارات ثلاثة وليبيا بحصيلة توحيد أربعة، وتحت عين الغرب، وبشراكته غالباً، وحدها بلاد الشام لحقها التقسيم وفقاً لاتفاقية موثقة اسمها سايكس بيكو، وزرع فيها كيان غريب غاصب هو الكيان الصهيوني الذي انتزع منها فلسطين، وها هو الغرب يرعى قيام مجلس تعاون خليجي يملك مستويات من التنسيق السياسي والاقتصادي والعسكري بتشجيع من الغرب، والأكيد أنّ جامعة الدول العربية التي قدّمت الغطاء لغزو ليبيا وتقدّمت بطلب رسمي لغزو سورية لا تشكل مصدر إزعاج للغرب، خصوصاً عندما يحتاجها لتبرير تسويق صفقات تقوم على تضييع فلسطين وتشريع احتلالها، وكانت وستبقى مشكلة الغرب هي أيّ شكل من القوة، والوحدة أحد أشكال وأدوات وأسباب القوة، يمتلكها مشروع تحرّري تقدّمي عربي، كالذي مثله جمال عبد الناصر، ومن بعده حافظ الأسد، ومن بعدهما حملت سورية بقيادة الرئيس بشار الأسد رايته.
– الممنوع هو الاستقلال والتحرّر والانتماء لقضية الشعب وقواه الحية، وحقوقها بنظام تقدّمي يعيد النظر بتوزيع الثروة ومفهوم التنمية، ويسيطر على الموارد، ويضع فلسطين في سلّم الأولوية، ويرفض الإملاءات الأجنبية، وهذا الممنوع يصير ممنوعاً بقوة أكبر إذا امتلك مشروعاً للوحدة، لأنها تزيده خطراً، وتمنحه فرصاً لتشكيل قوة تتخطى حدوده، وتلعب دوراً إقليمياً وربما عالمياً يهدّد بالإخلال بالتوازنات والمعادلات.
– تبدو المعادلات المحيطة بالوضع العربي محبطة لزاوية مشاريع وحدوية تلتقي مع المفهوم الذي جسّده جمال عبد الناصر، بربطها بالتقدّم والتحرّر اللذين تسبّبا بتصادمه مع الغرب والرجعية، وتالياً التآمر على حكمه والسعي لتفخيخ مشروعه الوحدوي، فمصر في حال مخاض طويل، والجامعة العربية لا تليق بأن تبقى فيها الجزائر ولا فلسطين خصوصاً، لكن يقدّم المثال السوري العراقي فرصة لاختبار فرص تنسيق متقدّمة، في ظلّ تقارب في التموضع على خطوط أمامية في المواجهة مع الإرهاب ومصالح واقعية اقتصادياً، وعلاقات متشابكة اجتماعياً وجغرافياً وسكانياً، وروابط مميّزة مع إيران وقوى المقاومة، رغم تفاوت وتباين الموقع والمسافة والصلة مع واشنطن، التي تقف بقوة ضدّ كلّ تكامل في مقدرات العراق وسورية، ليس رفضاً مبدئياً للوحدة، التي أقام تنظيم «داعش» نواة لها برعاية أميركية، بل لأنّ مثل هذا التكامل السوري العراقي سيضعف القبضة الأميركية في العراق، ويعزز مكانة سورية كقلعة للمقاومة، ويأخذ بيد العراق نحو الدولة المدنية بعيداً عن العصبيات الطائفية التي أنتجتها وترعاها واشنطن، لتدير عبر إشعال الفتن صراعات العراق وسياساته.
– في ذكرى ثورة جمال عبد الناصر، وسحر الزعامة العربية التي جسدها، ونموذج القائد الشعبي المتميّز بالأخلاق والتواضع والصدق، ومستوى الالتزام الوجودي بالصراع مع الكيان الغاصب لفلسطين، وانتمائه الحازم لمعسكر المقاومة، يتبدّى الوفاء بتذكر مقولتين حاكمتين في سياساته، الأولى ما قاله بحق حكم آل سعود، والثانية ما قاله عن سورية قلب العروبة النابض، من لا يقف مع سورية ويتخندق بوجه السعودية وحروبها والفتن التي تقودها، لا يشبه عبد الناصر ولا ينتمي إليه، ومنافق بالاحتفال في ذكراه، فمن يحب جمال عبد الناصر، يحب من احبهم ويكره من كرههم وكرهوه.
ناصر قنديل