تركيا من زمن الرجل المريض إلى زمن الرجل المجنون
توما عباس
منذ سنواتٍ عدة لم يكن أحد يتخيّل أنّ الابتسامة التركية التي ترفع شعار «صفر مشاكل» مع الجيران، سوف تتحوّل إلى تكشيرة بأنياب وصفحة سوداء مع جميع الجيران دون استثناء. لتصبح الحكومة التركية مشاكل على مشاكل في الخارج والداخل ربما هذا أفضل ما يقدّمه الفكر الإخواني، وهذا أفضل ما استطاعت أن تقدّمه العثمانية التي قطعت تاريخاً طويلاً حافلاً بالدم والرعب والاقتصاص، وهذا أفضل ما يمكن أن يقدّمه الأتراك لجيرانهم، ليس غريباً أبداً على العثمانية التي قطعت شوطاً طويلاً في دموية حروبها التوسعية منذ عهد سليم الأول، واقتصاصها من الشعوب التي حكمتها من الأرمن إلى الأكراد إلى العلويين إلى سكان بلاد الشام، والسفر برلك، وسياسات النهب والتجويع والسرقة، حيث أنه لم تكن المرة الأولى التي تسرق فيها تركيا حلب ولمن يريد أن يعرف ليسأل التاريخ كيف بنيت العاصمة العثمانية اسطنبول الآستانة سابقاً .
لذلك كانت ليلة الانقلاب العسكري على حكم أردوغان وحكم حزب العدالة والتنمية من أكثر الليالي فرحاً عند السوريين، سواء اتفقنا على طريقة الاحتفال أم لم نتفق، فجميع السوريين كانوا يحملون آمالاً شديدة بنهاية الطاغية الذي سرق معاملهم في حلب، وسرق نفطهم وحتى محطات توليد الكهرباء والقمح. وفتح حدوده عليهم لدخول القتلة وأجهزة المخابرات، وتاجر بأعضائهم وأجسادهم ومآسيهم ونزوحهم ثم أغرقهم في بحر الهجرة الموعودة، واستخدمهم بأوراقه السياسية مع أوروبا، وتاجر بهم تجارته الرابحة.
كان لهم الحق في الاحتفال بفرح عظيم لهذا الانقلاب حتى وإنْ انتهى بحزن شديد بسبب تمكّن أردوغان من السيطرة على الانقلاب الذي كان يحمل بداية ضعيفة، وبرنامجاً غير متكامل لم يراع فيه منفذوه ظروف الوضع الراهن، ولم يستفيدوا من تجييش الشارع الغاضب من سياسية أردوغان، خاصة أنّ الشعب التركي لم يكن يحمل ذكريات جميلة عن الانقلابات العسكرية التي تتالت منذ الستينات، ولم يكن يرغب بها وخاصة ونحن في زمن الديمقراطيات وصناديق الانتخاب.
الآن وبعد عدةِ أيامٍ من فشلِ الانقلاب ونهايته، وللمراقبين عن كيفية تعاطي أردوغان وحزبه مع الأحداث، يقف المنتظر لنهاية الرجل الطاغية أو حتى أعداء تركيا والشامتين فيها ضاحكين وساخرين، فما كان سيحققه الانقلاب لو نجح هو أقلّ بكثير مما حققه فشله، فلن ينجح أحد أبداً في إذلال الجيش التركي ولا المواطن التركي ولا المؤسسة التركية الداخلية من تعليم وقضاء وجامعات وصحافة وإلخ… كما استطاع ان يذلّهم أردوغان الذي تصرّف بجنون ورعونة، لم يكن لها سابق وليس لها أيّ مبرّر وسط سكوتٍ دوليٍ يوحي عن رغبة دولية لتركه يقوم بنفسه بتحطيم بيته والقضاء على دوره وإضعاف نفسه بنفسه… كمن يشاهد أحد يقوم بتناول سمّ يقتل ببطء يومياً، ثم يراه يذوي ويموت من دون أن يحرك ساكناً.
الآن أردوغان المنتقم الحاقد على جيشه فقد عثمانيته وحلم العثمنة الخاص به، وأهان العسكري التركي والجيش التركي ثاني أكبر جيش في حلف الأطلسي، وأحد أهمّ جيوش المنطقة… فأيّ أحلام بدولة قوية بدون جيش قوي… والآن أردوغان لن يكتفي بذبح جنوده على أيدي مرتزقته على البوسفور، ولن يشفي غله سجنهم وضربهم وتعريتهم في الساحات وإهانتهم من قبل الشرطة، ولن يملّ من إهانة المؤسسة العسكرية ورموزها، من أكبر ضابط فيها إلى أصغر مجنّد، بل سيستمرّ بإضعافها طالما أنه في سدّة الحكم ويحمل خوفاً منها برّره الانقلاب عليه… وسيكمل طريقه إلى إهانة الدولة ومؤسساتها في تركيا من قضاة ومعلمين وعمال وأطباء… وسيكمل سيناريو كمّ الأفواه والتضييق على الصحافة والإعلام…
أوَ ليس من الجنون أن يأمر بإغلاق 1043 مدرسة خاصة، و1229 جمعية ومؤسسة خيرية، و19 نقابة عمالية، و15 جامعة و35 مؤسسة طبية حسب بعض الاحصاءات… ربما هذا هو الفكر الإخواني، وما يمكن أن ينضح به من عمالة وجنون وإجرام وخيانة.
عرفت السلطنة العثمانية يوماً ما عهداً أطلق فيه عليها تسمية «الرجل المريض». حيث تقاسمت الدول القوية تركتها الممتدّة الأطراف، وأعادتها إلى حدود الدولة التركية الضيّقة، والآن تعرف عهد الرجل المجنون الذي سيقدّم التنازلات الخارجية ليحكم قبضته الداخلية فاقداً حلمه الكبير، وحتى شعبيته هو وحزبه، ليصبح عالةً وغضباً على الجيش والدولة وحتى داخل حزب العدالة والتنمية.