ثورة يوليو وعبد الناصر…
د. فايز رشيد
أربعة وستون عاماً مضت على ثورة 23 يوليو 1952. لم يتعرّض حدث تاريخي عربي لمحاولات التشويش والتهميش والهجمات المتوالية عليه… مثلما تعرّضت له هذه الثورة وملهمها جمال عبد الناصر! هو ورفاقه وضعوا ليس مصر وحدها٬ وإنما الأمة العربية من محيطها إلى خليجها في حقبة جديدة من التاريخ٬ كانت عناوينها الأبرز: الكرامة الوطنية٬ التحرّر٬ النضال ضدّ الاستعمار من أجل أن يحمل عصاه على كاهله ويرحل ٬ الوحدة العربية، التفاعل مع المحيط، في آسيا وأفريقيا ومع الأقطار البعيدة في أميركا اللاتينية، والتأثير في الحدث الدولي من خلال ما مثلته الناصرية من معان وطنية كبيرة٬ وتداعياتها على الجماهير في مختلف الأقطار العربية٬ التي التفّت خلف الأهداف التي طرحها عبد الناصر.. وبالتالي أصبح الرأي العام العربي عاملاً مؤثراً في أحداث المنطقة٬ بحيث أخذ يُحسب لها الحساب في المعادلات السياسية في دوائر صنع القرار في العواصم الغربية.
كما أصبحت القاهرة آنذاك٬ العاصمة التي لا يمكن تجاوزها٬ حتى في حالة الاختلاف السياسي معها٬ وباتت محجّاً لكلّ حركات التحرّر الوطني في القارات الثلاث٬ وأصبح عبد الناصر رمزاً من رموز رؤساء الدول النامية التي تبلورت سياسياً في حركة عدم الانحياز٬ وقطباً من خلال شخصيته الكاريزمية من رؤساء قلائل عالميين، تزعّموا هذه الحركة ولسنوات طويلة.
لقد حمل عبد الناصر لواء المشروع القومي العربي النهضوي الحديث، الذي لامس أحلام وطموحات الجماهير العربية بالنسبة لمستقبلها٬ وفي صراعاتها مع الأعداء المتربّصين بالمنطقة العربية وشعوبها، وعوامل وحدتها وتلاحم جغرافيتها٬ وبخاصة مع رأس الجسر الممثل لهذا التحالف المعادي «إسرائيل» التي حاولت من خلال التواؤم والانخراط في جوهر المخططات التآمرية ومن خلال التنسيق مع بقايا الاستعمار القديم البريطاني والفرنسي٬ إجهاض التجربة الناصرية في سنوات مبكرة من عمرها٬ بالهجوم على مصر في العدوان الثلاثي في عام 1956 وقد ارتدّ خائباً ومهزوماً٬ مما حمل المزيد من الألق للناصرية ولعبد الناصر على المستوى العالمي.
على صعيد مصر… فإنّ المبادئ التي حملتها ثورة يوليو٬ انعكست في توزيع الأراضي على الفقراء٬ الذين كانوا أشبه بالعبيد لصالح الأغنياء٬ وفي مجانية التعليم في مختلف مراحله٬ وفي الخدمات الصحية والحياتية الأخرى للمصريين٬ وفي التصنيع وفي تأميم قناة السويس٬ والثورة الزراعية٬ وفي كهربة مصر٬ وبناء السدّ العالي٬ الذي وإضافة إلى دوره في ريّ ملايين الهكتارات من الأراضي الزراعية٬ واستصلاح أراض صحراوية جديدة٬ فإنه جنّب مصر كوارث فيضان النيل.
السدّ العالي أحد أهمّ إنجازات عبد الناصر٬ تحوّل أيضاً الى مجال للهجوم الشديد عليه٬ بالرغم من أنّ رأي الخبراء المصريين والعالميين يؤكد على عظمة هذا الإنجاز وحيويته بالنسبة لمصر.
كثيرة هي الإيجابيات التي أسّستها الناصرية وعبد الناصر٬ والتي تستحق ان تحتذى من دول كثيرة٬ إنْ في تصفية الاستعمار والوقوف في وجهه٬ وعدم الرضوخ لضغوطاته٬ او في التأسيس لقضايا شعوبها الحياتية أو المتعلقة في السياسات الخارجية.
مهاجمة ثورة يوليو وعبد الناصر… ثأرية، كاذبة، بعيدة عن الواقعية، اتهامية، تحريضية سوداء مما يوحي بالخلفية السوداء لكلّ أصحابها ومخططيها، الذين هاجموا منجزات عبد الناصر ولإقامته علاقات قوية مع كافة الدول التي وقفت مع الحقوق الوطنية العربية وساندتها٬ ومن بينها الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية آنذاك في مرحلة الحرب الباردة٬ وكسر احتكار استيراد السلاح٬ وتطبيق الوحدة العربية مع سورية في عام 1958، والوقوف مع الثورة الجزائرية، وإسقاط حلف بغداد، ومساندة الحقوق الفلسطينية والثورة في مرحلة لاحقة… وغيرها من السياسات والخطوات التي تركت بصماتها على احداث المنطقة.
لكلّ ذلك… كانت مصر وعبد الناصر والناصرية هدفاً للتآمر الامبريالي بكلّ صيغه الجديدة٬ والتي ابتدأ التخطيط الفعلي لها من أجل كسر شوكة مصر وهزيمة الناصرية بكلّ ما تمثله من إيجابيات٬ منذ سنوات طويلة.
سياسيون كثير «إسرائيليون» وأميركيون كتبوا في مذكراتهم ومؤلفاتهم عن خطة الهجوم العسكري على مصر… فقد كانت معدّة وقيد التنفيذ منذ أعوام قبل حصولها في عام 1967… ذلك لا يعني بالمطلق إغفال خطأ عبد الناصر وقيادته في عدم الإعداد جيدا لتلك الحرب! وبخاصة بعد ان نفذتها «اسرائيل» بالتحالف مع الولايات المتحدة٬ وقبيلها تمّ استدراج مصر وعبد الناصر إلى فخ سياسي مرسوم وجرى إعداده بدقة متناهية. كما اننا لا نغفل الخطأ الجذري لعبد الناصر٬ والذي جعل كلّ الخطوات والإصلاحات التي نفذها مرهونة بشخصه٬ وليس بالمؤسسات التي كان من الواجب ان يتمّ بناؤها، لتشكل حصانة مستقبلية في الحفاظ على السياسات في المجالات المختلفة٬ والتي تمّ انتهاجها.
لقد تمّ التنكر للناصرية ولِما مثلته بعد فترة وجيزة من وفاة عبد الناصر في 27 أيلول/ سبتمبر 1970، ومنذ تلك اللحظة وحتى الآن٬ ما زالت ثورة يوليو تتعرّض لهجمات قاسية، حادة، بعيدة عن العلمية والموضوعية٬ رغم ذلك ستظلّ الناصرية وثورة يوليو شعلة مضيئة في التاريخ العربي.