نهايات مختلفة لم يَرِدهْا مخططو انقلاب تركيا ومنفذوه ومحبطوه
محمد شريف الجيوسي
تتركز معظم أحداث المنطقة حول تركيا من حيث المصالحة التركية الروسية المحدودة، والتركية الإسرائيلية فيما الحقيقة تقول إنها ليست مصالحة فالعلاقات بين انقرة وتل ابيب، لم تتوقف أبداً، وبخاصة العسكرية منها، حيث أجريت مناورات تركية أميركية «إسرائيلية» في الفترة الأخيرة.
لكن الجديد والأكثر أهمية لعبة الانقلاب العسكري التي وقعت ليلة الجمعة/ السبت 15/16 تموز الحالي، والتي تباينت فيها المعلومات والتهامات والتحليلات، حول الجهة الحقيقية التي قامت بالانقلاب.. هل هو أردوغان أو خصمه العنيد غولن أو الجيش التركي، أو الولايات المتحدة الأميركية أو السعودية بحسب أمير قطر السابق أو إيران بحسب كتّاب سعوديين هم خارج التغطية العقلية .
ويُطرح في جملة ما يطرح، ما مصلحة أمير قطر السابق في اتهام السعودية وأميركا، وما مدى صدقية كتّاب سعوديين في إتهام إيران، ولِمَ يتهم أردوغان حليفه الرئيسي واشنطن في تدبير انقلاب؟ وما مصلحته في ذلك؟ وما هي مصلحة واشنطن إنْ صحّ القول بتدبير انقلاب ضدّ أردوغان؟ ربما كان أسهل عليها الخلاص من شخصه الكريم من أن تدبّر انقلاباً على افتراض أنها تختلف معه جوهرياً في بعض الملفات فطريقة الخلاص منه على طريقة الخلاص من شارون أقلّ كلفة وضجيجاً وتداعيات.
قد يكون غولن الذي يمتلك مليارات الدولارات، والآلاف من المريدين والأنصار في مختلف مفاصل الدولة وراء محاولة الانقلاب، لكن هذا الرجل السياسي المحنّك والذي يتوفر على المال والرجال ما يكفي، ليس بمقدوره خوض مغامرة غير محسوبة جيداً، ودون تنسيق مع واشنطن وعلمها، ومن المستبعد أن تقبل واشنطن الانقلاب على تركيا وإنْ كانت ثمة اختلافات معها حول ملفي سورية والعراق وملف الأكراد، وحول ما بدا انه مصالحة مع روسيا.
لكن الحديث حول من كان وراء محاولة الانقلاب، يبدو الآن نوعاً من الضرب في الرمل، والأهمّ هو انعكاس ما حدث على تركيا والمنطقة…؟
كان رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم قد تحدّث عن زمرة صغيرة معزولة، قامت بمحاولة انقلاب، معبّراً عن يقين مطلق يثير الدهشة، بسحقه للانقلاب، وبعد أن بدا الانقلاب ناجحاً، رأينا مدنيين يعتقلون عسكريين كـ»الفراخ»، في سابقة غير مفهومة … ووجدنا ثغرات كثيرة في رواية الانقلاب وعودة «السلطان» إلى عرشه منتصراً.
تبع ذلك وخلال وقت يسير جداً، اعتقال وتجريد آلاف العسكريين الأتراك من مختلف القطع العسكرية والأسلحة البرية والبحرية والجوية والجيوش والمناطق، كما رأينا قضاة يُعزَلون بمن فيهم قضاة المحكمة الدستورية، ويلفت الانتباه هنا إلى أنه ما كان ممكناً اعتقال كلّ هذه الأعداد الكبيرة بهذه السرعة، لو لم تكن هناك قوائم جاهزة معدّة قبل حين كافٍ من الانقلاب ـ المؤامرة.
ومن المرجح أنّ روسيا كانت على علم برواية الانقلاب قبل وقوعها، وكانت تعلم أنّ محاولة الانقلاب الأردوغانية الغبية، هذه، على الذات، هي بمثابة انتحار طوعي، أو على طريقة عليّ وعلى أعدائي… مع ما بين الطريقتين من تباين، في نهاية المطاف.
لقد حقق أردوغان فشلاً ذريعاً في كلّ حروبه الدونكيشوتية سواء في سورية او العراق او داخل حدود بلاده، وحصد عداوات جيرانه، وانتكس وضع تركيا اقتصادياً بعد فترة من الصعود، وكان لسورية دور في حالتيْ الانتعاش والهبوط، وخسر أمنه الاجتماعي والسياسي، وبدت تركيا مهدّدة بالتقسيم، وبدأت عواصف الإرهاب الذي زرعه في دول الجوار يعود عليه بالمن والسلوى؟ ورغم مظاهر السطوة والقوة في حزبه، تراجع تماسك الحزب، وظهرت حالات اختلاف وانزواء بالحدّ الأدنى، إنْ لم تتوفر على تدابير.
بهذا المعنى بلغ أردوغان حداً من الفشل فقد بنتيجته البوصلة… زاد من ذلك فشله الكبير في دخول الاتحاد الأوروبي، بل وتلاشي هذه الإمكانية بالتساوق مع فشلين، أولهما فشله بعد أكثر من 5 سنوات عن تحقيق تقدّمٍ يذكر بصدد اتفاقه مع الولايات المتحدة في تأمين ليبيا وسورية والعراق بالتنسيق مع مكتب الإرشاد العالمي الإخواني ومع حزب التحرير الإسلامي، ليجد نفسه أسير وهابية فتنوية مدمّرة ليس من السهل الخلاص من إشكالاتها، وما تفرضه من فتن ودمار ودم.
والفشل الثاني، داخلي، لم يقتصر على افتقاد تركيا الاستقرار والأمن القومي والاقتصادي والمجتمعي، ليتعدّاه إلى قمع واضطهاد كلّ من يختلف معه من إعلاميين وأكاديميين وقضاة وطلبة، وأكراد… بعد سنين طويلة نسبياً من السكون وحالة الاستقرار والازدهار الاقتصادي، وهو ما لا يعجب اوروبا، التي تحرص على عدم انتقال خروقات حقوق الإنسان إليها.
أراد أردوغان القول إنه يستطيع الخلاص بضربة واحدة من كلّ خصومه أو منافسيه أو غير المعجبين بمواهبه أو الناقمين على طريقته الفردية في إدارة شؤون تركيا الداخلية، أو الذين لم تعجبهم إدارته لعلاقات بلاده مع دول الجوار، بما جلبت لتركيا الخصومات والعداوات، أو الذين استشعروا مغبة أفكاره الماضوية، التي جوهرها ضجيج خرافات بني عثمان، الذين لم يتركوا خلفهم في بلادنا العربية غير الجهل والمرض والتخلف، وأتاحوا للسفارات والإرساليات الغربية التحكم بشؤون البلاد، وفي عهدهم قامت أولى المستوطنات الصهيونية في مرج بني عامر وقرية المطلة على خلاف ما يحاول الإسلام السياسي تبييض صفحة السلطنة العثمانية من وزر أول وجود صهيوني على أرض فلسطين .
تركيا التي كانت تمتلك ثاني أهمّ جيش في حلف النيتو، أصبحت الآن بلا جيش، أو تكاد، بعد الاعتقالات الواسعة الأخيرة داخل صفوفه وفكفكته، حيث استعاض أردوغان عنه بميليشيا عثمانية للقمع وحماية نظامه السياسي، لكنه بما اقترف فقد مكانته لدى الاتحاد الأوروبي.
وأردوغان الذي شدّ أزره بتل ابيب، نسي رغم كلّ محاولات الإسلام السياسي الأميركي الصهيوني حرف بوصلة الصراع، عن الكيان الصهيوني باتجاهات أخرى، إلا أنّ الناس رغم بعض الانجرافات ما زالت ترى أنّ «إسرائيل» عدواً، وبالتالي فإنّ تقوية صلاته بتل ابيب هي وبال عليه، وستحدث خلخلة داخل الصف الإسلاموي، بين مبرّر له ورافض بخجل ومستنكر بشدة، فضلاً عن أنّ تل ابيب لا ذمة ولا عهد لها كأميركا.
أما روسيا فهي أكثر من سعيدة بما جرى في تركيا، فتركيا البعير الأجرب في المنطقة، التي باتت بلا جيش محترف حقيقي، والتي فقدت مكانتها النيتوية والأوروبية والمتعادية مع جيرانها والمتردّية أوضاعها المتعدّدة، والعاجزة، الموشكة على سحب نفسها من مزيد من التورّط في الجنوب، أصبحت لا تشكل أيّ خطر، بل قد تصبح حليف أمرٍ واقع ، بلا أدنى أظافر أو مخالب.
وعندما مدّ أردوغان يده باتجاه روسيا كان يعلم على ما هو مقدم عليه، راغباً بأن لا يترك فرصة للخربشة عليه، فروسيا تقدر على ذلك إنْ أرادت، ومن هنا فإنّ روسيا وقبل أن تفشل الحركة الانقلابية قالت وبعدها في مجلس الأمن إنها مع الدستور، ولم تقل إنها مع الديمقراطية التي أتت بأردوغان وحزبه، وثمة فرق.
سورية والعراق ستستفيدان مما حصل في تركيا، فالأرجح أنّ أردوغان معنيّ أكثر من أيّ وقت في ترتيب بيته الداخلي، وإعادة النظر في سياساته، وتعزيز علاقاته مع روسيا، لأنّ تعزيزها، سيسهّل عليه استعادة العلاقات مع إيران والعراق وسورية، بأقلّ قدر من الخسائر.
ولكي تصمت تل أبيب عن توجهاته هذه، سيقدم لها جوائز ترضية أكثر مما يظن، وسيتابع المزيد من قمع خصومه، ومع كلّ قمع سيظنّ أنه أصبح أقوى، لكن جبهة خصومه وأعدائه والراغبين في إسقاطه ولهم مصلحة في ذلك، سيزدادون، وسوف لن تكون له فرصة للنجاح مع نهاية المدى القريب، لذلك فهو كمن ينتحر طوعاً.
وإذا كانت العلاقات السعودية التركية قد شهدت بعض التقدّم في السنتين الأخيرتين، إلا أنها لن تبقى تحافظ على هذا النسق، فالفكر الوهابي التكفيري، هو المحرك الرئيس للعصابات الإرهابية والخطر الماثل الأشدّ، فضلاً عما بين أردوغان الإسلامي العثماني والسعودي الوهابي، والذي أيّ الأخير بات ينافسه على ودّ تل ابيب وروسيا.
ومن المرجح أن يأخذ الأردن بعين الاعتبار، حالة الارتباك والضعف التركية وما يمكن ان تؤول إليه حال النظام السياسي الإسلاموي المتهافت الآيل للسقوط، كما أنّ جبهة تركيا مع سورية والعراق لم تعد آمنة للعصابات الإرهابية تسللاً وتسليحاً وتمويلاً وتدريباً كأمر واقع وهي فرصة للأردن ثمينة ومبرّرة لرفض أيّ محاولات للضغط عليه من موقع قوة، من أيّ جهة كانت لتلبية مطالب هي ليست في صالحه أولاً وآخراً، فالأردن ليست له إمكانيات تركيا، وإذا كانت أنقرة قد توصلت إلى هذه القناعة، فمن باب أوْلى أن يصل الأردن إليها، فحماية أمنه القومي متعدّد الأوجه في الداخل وعلى حدوده مع دول الجوار بالاتجاهين له الأولوية.
بكلمات، انّ ما حدث بغضّ النظر عمّن رتب له ونفذه وأحبطه، تركيا الآن وما هي مقبلة عليه ليست ما قبلها، والمنطقة باتت مقبلة على انفراج مهمّ، لم يكن مرغوباً أن يتحقق ممّن خططوا ونفذوا وأحبطوا، لكن النهايات كانت مختلفة، ومن لن يستوعب، ويبقى على جمود موقفه، وسلوكيات ما قبل ما حدث، سيحصد نتائج أسوأ مما يحصد أردوغان الآن.
m.sh.jayousi hotmail.co.uk