كيري لافروف: حملة النورماندي والدخول إلى برلين
ناصر قنديل
– تشبه اللحظة التاريخية للقاء الروسي الأميركي تلك اللحظة التي عاشها المقاومون الفرنسيون للنازية الذين كان أغلبهم ينتمون إلى الحزبين الاشتراكي والشيوعي، عشية إنزال النورماندي على شواطئ فرنسا قبيل النجاح السوفياتي بالدخول إلى برلين، حيث كان بينهم من يقول إنّ الأميركيين الذين يشكلون النسخة الأكثر تطوّراً للرأسمالية، ليسوا جادّين بالتخلص من النازية كنسخة مشوّهة من الرأسمالية، وسيسعون لاستخدامها كأداة لاستنزاف اليسار ومنع تنامي قوته العالمية وسحق حركات التحرّر، بإدارة مزدوجة تسعى لاستخدام القوة السوفياتية ومعها قدرات حركات المقاومة والجيوش الوطنية لمنع تمدّد النازية، والتحوّل إلى قطب فاعل في السياسة الدولية. وفي المقابل سيسعون لاستخدام النازية، عبر إدارة محسوبة للحرب عليها لا تسمح بسقوطها، ولا بتمدّدها، لتكون عنصر التوازن البديل الذي يريح أميركا من الوقوف بوجه الاتحاد السوفياتي وحركات المقاومة والتحرّر.
– كان الرئيسان الفرنسيان السابقان، الراحلان شارل ديغول وفرنسوا ميتران، يتقاسمان قيادة المقاومة الفرنسية، الأول على رأس وحدات من الجيش الفرنسي رفضت التعاون مع الاحتلال النازي، والثاني كقائد للمقاومة الشعبية التي تشكلت من الاشتراكيين والشيوعيين، وكان توافق الرجلين ضمانة لوحدة المقاومة، على منهج الإفادة من الموقفين الأميركي والسوفياتي في قتال النازية، وإبقاء تحرّر فرنسا من جهة واستقلالها من جهة أخرى، الأولويتين اللتين تحدّدان موقف المقاومة، ولذلك وثق ديغول بقدرة المقاومة التي يقودها ميتران وبمصداقية تعاونها مع الدعم السوفياتي، وارتضى أن يكون جسر التواصل بين جناحَي المقاومة والقوات الأميركية التي بدأت تستعدّ لإنزال النورماندي، وكان التشخيص الذي صاغه الرجلان المقاومان يقول إنّ الأميركيين جادّون هذه المرة بالنزول على النورماندي، لسببين وهما الثقة بأنّ النازية قادرة على التمدّد والتوسع ما لم تُسحق، والثاني أنّ الانتصار السوفياتي المتدحرج بالتعاون مع حركات المقاومة الوطنية في أوروبا سيجعل فرصة سقوط النازية، نصراً كاملاً للسوفيات، وبالتالي تمهيداً لتفرّدهم بزعامة عالم ما بعد الحرب.
– كان ديغول المقيم في لندن يزوّد ميتران الموجود على رأس جماعات المقاومة بكلّ ما يرده من معطيات، وكان ميتران فيلسوف المقاومة وكاتبها يصوغ بلغة متوسطة بين اليسار والوطنية الصادقة، ما يجمع تفكيره مع ديغول، الذي أتاح له إنزال النورماندي القدوم كمقاتل محرّر إلى فرنسا، من دون أن يلغي فكره الوطني الاستقلالي، وما تحمله الروايات التاريخية عن تصادم مستمرّ بينه وبين الأميركيين والبريطانيين. وهذا ما ظهر مراراً في الستينيات بإعلانه العزم على الخروج من حلف الأطلسي، وبعد بلوغ القوات السوفياتية والأميركية أبواب برلين، وتحرّر فرنسا من النازية، تشارك ديغول وميتران عشر سنوات من الحكم المشترك لفرنسا، ليتناوبا على حكمها بعد ذلك قرابة الثلاثين عاماً.
– بعد سنوات شبيهة بسنوات الحرب العالمية الثانية في اللعب الأميركي مع تنظيم «القاعدة»، واستخدامه عن بعد كآلة للاستنزاف وخلق الفوضى، والابتزاز وفرض الشروط، والتهديد بتغيير الخرائط الإقليمية، وبعد سنوات من الرهان على أن تلعب تركيا دوراً شبيهاً بالذي لعبته بريطانيا في الحرب العالمية الثانية، ينجح صمود سورية ومن ورائها روسيا وإيران، بخلق وقائع تشبه ما جرى بعد صمود موسكو وانتصارات جيشها وشعبها في معارك ستالينغراد على النازية، واندفاعها في الهجوم الكبير المتدحرج نحو برلين، بينما النازية تنتقم بإشعال النيران في لندن، كما يشعل الإرهاب عواصم الغرب اليوم، ولكن الرئيس التركي رجب أردوغان ليس ونستون تشرشل، فتصير تركيا عبئاً لا سنداً، وعلى الضفة المقابلة ينجح الرئيس السوري بتجسيد جمع تاريخي بين شخصيتَيْ ديغول وميتران، فيقود مقاومة شعبه وجيشه للنازية الجديدة، التي يمثلها الإرهاب الآتي من حضن تطرف فكر التكفير، وتصير برلين، التي يمثلها اليوم شمال وشرق سورية تحت النار، ويتوافق الحلفاء السوري والروسي والإيراني على أنّ شهر آب هو شهر الكلمة الفصل في الحرب، سواء جاء الأميركي أم لم يأتِ.
– يعتقد الكثيرون أنّ الأميركيين لا زالوا يتلاعبون بالخيارات، ويراهنون على القفز فوق الحبال وإدارة التوازنات فيها. والأمر هنا ليس بالنيات بل بالقدرات، فالذين يظنّون ذلك لا يتميّزون بأنهم الأشدّ شكوكاً بالنيات الأميركية التي لا يختلف إثنان على سوئها، بل الأمر أنّ الشك في النيات يتسبطن أحياناً كثيرة ثقة مبالغاً بها في القدرات، فيمنح الضعيف والمحكوم بالخيارات قدرة المناورة التي لا يملكها، كما كان عليه حال الأميركيين عشية غزو النورماندي. ولذلك يمكن القول إنّ الأميركيين الذين يمثلهم اليوم جون كيري في مفاوضاته مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، صاروا يملكون مع الروس أسراراً لتفاهمات، لا يعرفها حلفاؤهم، ولا يريدون لهم أن يعرفوها، وليس من سرّ يخشاه الأميركيون مثل أنهم سلّموا أخيراً بحتمية التعاون ضمن معادلة يشكل الرئيس السوري بشار الأسد بيضة القبان فيها، فالإنزال الأمثل هو في النورماندي الفرنسية، ويجب التعاون مع شارل ديغول، رغم الحقد والكراهية التي يجاهر بها نحوه ونستون تشرشل وفرانكلين روزفلت، بمثل ما تنقل وثائق الخارجية البريطانية عن تفاهم روزفلت وتشرشل على عدم الثقة بديغول، رغم حتمية التعاون معه.
– الأيام والأسابيع المقبلة حاسمة مثلما كانت أيام النزول على النورماندي والدخول إلى برلين، فحرب عالمية ثالثة تقترب من نهاياتها، وترسم توازناتها ومعادلاتها، وتُكتب أسماء قادتها، ومثلما حملت الحرب اسم ديغول رمزاً للنصر، رغم أدوار الجيوش السوفياتية والأميركية، وأدوار قادة مثل فرانكلين روزفلت وجوزف ستالين وونستون تشرشل، دخلت المقاومة الفرنسية ومعها شارل ديغول رغم كراهية روزفلت وتشرشل له وحقدهما عليه، صفحات تاريخ الحرب كعلامة فارقة لصناعة النصر على النازية، سيكتب التاريخ الحديث في سجل الحرب على النازية الجديدة اسم الرئيس السوري، الذي يشبه ما قاله فيه الرئيس الأميركي باراك أوباما ما قاله فرانكلين روزفلت بشارل ديغول، لا أحبّ هذا الرجل ولا أستطيع تخيّل فرنسا وهو يحكمها.