«غلوبال ريسرتش»: شرارات «حرب أهلية إسرائيلية» وسط الاضطراب الدائم والفوضى العارمة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
ترجمة وإعداد: ليلى زيدان عبد الخالق
لسنا هنا بمعرض التطبيع مع العدوّ الصهيوني، بمعنى أننا نمنح «دولته» التي تغتصب أرض فلسطين الحبيبة شرعيةً ما، عندما نتحدث عن احتمال نشوب حرب أهلية في هذه «الدولة»، فيظنّ البعض أننا نساوي بين «إسرائيل» وبين أيّ دولة في العالم.
إلا أننا بترجمتنا هذا التقرير الذي نشره مؤخراً موقع «غلوبال ريسرتش» الإخباري، نؤكّد أنّ اليهود الذين جُلبوا من كلّ مكان في العالم لشرعنة «دولة إسرائيل»، ولوصفهم بـ«المجتمع» أو «الجمهور»، أو «الشعب الإسرائيلي»، ليسوا بمنأى عن أي خلافات قد تنشب في ما بينهم. خصوصاً أن قبائلهم وأحزابهم وجمعياتهم وكل تجمّعاتهم، تنضح بالإجرام مذ وجدوا في هذه المستديرة.
يعرض هذا التقرير لمشاعر الحقد الداخلي الواسعة الموجودة في أوساط اليهود، وللصراعات المتجذّرة بين اليهود، أحزاباً وأفراداً.
يقول إسحق هرتزوغ، زعيم المعارضة لتحالف «المعسكر الصهيوني» في «الكنيست الإسرائيلي»: نحن على شفا انتفاضة لا يُستهان بها، مليئة بالكراهية والعنصرية والظلام والقتل والاغتيال التي أسّست لها مشاعر الحقد الداخلي الواسعة هنا. فنحن نشمّ رائحة الكراهية في كلّ زاوية وحيّ، سواء كانت موجهة ضدّ المرأة من قبل الحاخامات العسكريين، أو من اليهود الأشكناز ضدّ اليهود الشرقيين، أو اليهود الشرقيين ضدّ الأشكيناز. وبهذه الطريقة تُزرع بذور الحقد والكراهية التي ستقود حكماً إلى حربٍ أهلية. وتحظى هذه الحملة من الكراهية بدعمٍ كامل وغطاء من المسؤولين.
كلمات إسحق هرتزوغ هذه، والتي نطق بها في 18 تموز الحالي في جلسة للكتلة البرلمانية الصهيونية، لن تخطئ في قرع نواقيس الخطر المطلوبة، لا بل حتى الخيالية. فكيف بحقّ السماء يمكن لـ«شعب إسرائيل»، وهي الدولة التي أُنشئت بهدف ضمان الحفاظ على «الشعب اليهودي»، أن توضع على سكة صراع بين الأشقاء، من شأنه أن يهدّد وجودها؟
وقد جاءت هذه التحذيرات المتكرّرة لدولة يحيط بها عددٌ لا بأس به من الأعداء، والتي بقي وجودها في تهديد دائم خوفاً من أي يُساق شعبها إلى البحر من قبل أعدائها العرب الذين يبدو أن تضامنهم الطائفي غير قابل للكسر، بغضّ النظر عن اختلافاتهم الثقافية والعرقية. وبالنسبة إلى كثيرين منهم، هناك ميلٌ نحو المشاحنات والقلق والكآبة والنزاعات والانقسامات العرضية الناشئة داخلياً نتيجة الخطاب السياسي المتقلّب، والذي يؤكد صدق القول المأثور القديم: «يهوديان، وثلاثة آراء».
كان بنيامين نتنياهو قادراً على استشراف الرؤية في ما يتعلّق بالمذبحة المستمرّة الجارية في سورية بسبب الحرب عليها: لن نكون أبداً مثلهم. فنحن لن نرفع أيدينا ضدّ إخواننا بمثل هذه العدائية التي لا حدود لها.
إن مسألة صراع الأشقاء ليست بغريبة عن التاريخ اليهودي. حيث يسجل «كتاب القضاة» حرباً أهلية ضروس اندلعت بين قبيلتَي «جلعاد» و«إفرايم»، والتي حصدت ما لا يقلّ عن 40.000 شخص. كما يذكر أن أسباط «إسرائيل» قد حرّضوا ضدّ البنيامينيين بذبح 25000 ألفاً منهم، بينما يؤكد السرد التاريخي الذي يعود إلى «حانوكا» ـ وهو من الأعياد اليهودية الصغيرة ـ الإطاحة العنيفة من قبل اليهود الهيلينستيين ضدّ المكابيين، والتي قادها آنذاك ماتاتياس. يقول التلمود إن الثورة ضدّ الرومان فشلت بسبب «العدائية اللامتناهية بين الأخوة».
وقد وفّر العصر الحديث للصهيونية حلقات طويلة من العنف، على رغم تراجعهم عن تطوير حروب أهلية شاملة. فالاغتيالات التي طاولت بعض المناهضين للصهيونية كيعقوب دي هان من قبل الهاغانا عام 1924، وحاييم أرلوزوروف عام 1933، فضلاً عن إسحق رابين الذي قضى على يد أحد المستوطنين المتشدّدين عام 1995، شكل كلّ هذا وأكثر أمثلة عدّة على قتل شخصيات بارزة خلال فترات الشقاق.
لا تشكل «إسرائيل» مجتمعاً متجانساً، فالانقسامات الإثنية والعرقية، ناهيك عن تلك القائمة على أساس القيم الدينية والسياسية، يمكن أن تشكّل أرضيةً خصبة لتطوير مواجهة اجتماعية خطيرة.
وفي حين أن هذه التناقضات التي عرضناها تعود جذورها إلى الأجيال التي سبقت أولئك الذين ولدوا في عهد الانتداب، أي قبل قيام الدولة، غير أننا منذ ذلك الحين نستطيع تمييز الانقسامات الواضحة داخل المجتمع «الإسرائيلي»، من خلال القوميات التي تشكّلها، وكذلك في الخلافات بين أولئك المتديّنين والعلمانيّين. وإبان النظر في نقطة البداية لهذه التقسيمات الأساسية الموجودة في المجتمع، والتي يمكننا العثور عليها في طبيعة التسوية الدستورية، نجد أن «إسرائيل» هي واحدة فقط من بين ثلاث دول في العالم تعمل من دون دستور «مكتوب». ويعود السبب في هذا، إلى التسوية التي تمّ التوصل اليها حول الوضع القانوني للدين بين مؤسّسي العلمانية «الإسرائيلية» وممثلي الأورثوذوكس اليهوديين. أما الحلّ الوسط لـ«الوضع القائم»، فكان توفير ترتيبات العمل للدور الذي ستلعبه اليهودية مع النظامين الحكومي والقضائي على مدى قرون. وقد أوجدت هذه الأحوال توترات جمّة بين الجماعات العلمانية والأخرى الدينية على مدى العقود، تمحورت حول الإعفاءات الممنوحة للهاريديز الذين يدرسون في المدارس الدينية أو مع الجماعات المعادية لليهود.
هناك أيضاً انقسامات عميقة في الإيديولوجية. تسيطر «إسرائيل» منذ ذلك الوقت، أي منذ تأسيسها على اليد العاملة الصهيونية، وعلى الاشتراكيين اليهود الأوروبيين الذين يسعون إلى تطوير الدولة من خلال القوى العاملة من الكيبوتسات في المناطق الريفية والبروليتاريا في المناطق الحضرية. ومع ذلك، فإن صعود حزب «الليكود»، الذي جاء إلى السلطة عام 1977، عكس تحوّلاً في التوازن الوطني باعتبار أن السلطة هي «حقّ» سياسيّ. ومنذ ذلك الوقت، يسيطر «الليكود» على السلطة لفترات زمنية أطول من تلك التي يستطيعها حزب «العمال» أو غيره من الأحزاب اليسارية الأخرى. وقد اعتمد «الليكود» على السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة بدلاً من تلك السابقة المبنيّة على التوجه الشعبوي والتي غيّرت بشكل ملحوظ المجتمع «الإسرائيلي»، إنّما ليس بالضرورة نحو الأفضل.
وحتى ذلك حين، فإن الاقتصاد «الإسرائيلي»، المعروف عالمياً بتفوّقه التكنولوجي، سيختبر نموّاً مستمرّاً على مدى أكثر من عقد، وذلك حين أصدرت «مؤسّسة التأمين الوطني» تقريراً مفصّلاً عام 2014 تذكّر فيه أن واحدة من خمس عائلات في البلاد تعيش تحت خطّ الفقر.
وبعد فترة وجيزة، أصدر «مركز توب»، وهو مركز بحوث يهتمّ بالسياسات الاجتماعية، مركزه القدس، تقريراً عن حال «الأمة»، وجد فيها أن أربعاً من أصل خمس أسَرٍ «إسرائيلية» تنفق أكثر مما تكسبه في الشهر. وفي السنة التي تلت، وجدت «مؤسّسة التأمين الوطني» أن معدّل الفقر قد ارتفع من طفل واحد إلى ثلاثة يعيشون تحت خطّ الفقر. وبهذا تكون «إسرائيل» ـ وهي واحدة من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي للتنمية، التي تسجّل أعلى مستوى من الفقر بين الدول المتقدّمة.
وعلى رغم أن التفاوت في مستويات الثروة، يبدو جسيماً في غالبية الأحيان، غير أن هذا قد يشكّل أساساً للشقاق الاجتماعي، وبالتالي إلى الثورات الأهلية والعصيان المدنيّ، أما الصراع الطبقيّ، فلن يكون طريقاً ممهّداً لنشوب حرب أهلية إسرائيلية.
ويرى كثيرون من المحلّلين «الإسرائيليين»، أن السبب الرئيس للحرب، يتجذّر في احتمال اندلاع نشوبها بين السكان المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة التي يؤمن عدد منهم بأنها تقع فوق المناطق القديمة لـ«يهودا والسامرة». وفي استطلاع للرأي أجراه هذه السنة «المركز الإسرائيلي الديمقراطي غوتمان» لاستطلاعات الرأي، و«جامعة تلّ أبيب»، وجد أن 71.5 في المئة من الجمهور اليهودي «الإسرائيلي»، لم ينظروا إلى الوجود «الإسرائيلي» في الضفة على أنه احتلال. واعتبرت وجهة النظر هذه، أنه كلما زاد حجم المستوطنين وطالت فترة الاستيطان، فإن احتمال اعتبار المستوطنين جزءاً من عملية السلام مع الفلسطينيين، أكثر قبولاً. ومن المعروف أن أيّ محاولة من جانب الحكومة «الإسرائيلية» تصبّ في مصلحة طرد المستوطنين، من شأنها التسبّب في قيام حرب أهلية يهودية.
وفيما أثار الانسحاب «الإسرائيلي» من غزّة ضجة كبيرة عام 2005، فضلاً عن عدد من الاحتجاجات المريرة والحادّة من جانب اليمين «الإسرائيلي»، فإن ذلك لا يؤدّي إلى صراع خطير في ظلّ الاحتماء بالإيحاءات العسكرية. إذ إنّ الانسحاب من الضفة الغربية والعمل على تفكيك المستعمرات هناك، من شأنهما أن يخلقا ردود فعل مختلفة تماماً. وهناك أيضاً أدلّة على أن آرييل شارون عام 1980، وبعد تقاعده آنذاك من الجيش برتبة جنرال، استمرّ في ممارسة تأثيره السياسيّ، حيث عكف على عقد اجتماعات سرّية مع عدد من الشخصيات في القيادة العليا للأجهزة الأمنية والعسكرية التي حضرت ووقّعت يمين الولاء بالدم بهدف مقاومة أيّ محاولة لفكّ الاستيطان في الضفة الغربية.
ووفقاً للصحافي الإنكليزي آلان هيرت، فإن مصدر هذه المعلومات وهذا الاجتماع، جاء من عازار وايزمان نفسه، وهو القائد السابق لسلاح الجوّ «الإسرائيلي»، وذلك حين كان يشغل منصب وزير الدفاع.
ويُعتقَد أن هذا اليمين قد تمّ العمل به من قبل الأجيال اللاحقة من الجنرالات. وهو يدعم بقوة فكرة تطبيق جميع رؤساء الحكومة في «إسرائيل»، لمبدأ إطلاق الجيش النار على المستوطنين، الذين يوجد ضمن صفوفهم بعض الصهاينة المتشدّدين والمسلّحين، ما يشكل خطر احتمال البدء بالتمرّد.
وكان خطر نشوب حربٍ أهليّة محتملاً جداً في الشهور التي تلت إنشاء الكيان «الإسرائيلي» عام 1948. وفي الحقيقة، فإن بعض حوادث إطلاق الرصاص التي أدّت إلى حدوث بعض الوفيات قد حصلت بالفعل، بين المتحاربين في الجيش «الإسرائيلي» الذي كان لا يزال حديث الإنشاء وبين عصابات الأرغون التي كانت آنذاك بقيادة ميناحيم بيغن.
البداية، مع الضابط فلاديمير جابوتنسكي الذي يعتبر مؤسّس «الحركة التصحيحية الصهيونية»، والذي أراد من دولة «إسرائيل» الوليدة الاستمرار في القتال مع جيرانها العرب حتى تستولي على جميع «أراضي إسرائيل». ولا يتضمّن هذا فقط الضفة الغربية، إنما أيضاً ما تبقى من أراضي الانتداب البريطاني إلى الشرق من نهر الأردن.
فضّل رئيس الوزراء دايفيد بن غوريون عدم متابعة هذا المسار، فطلب استيعاب عصابات الأرغون وغيرها من المنظمات شبه العسكرية في الجيش «الإسرائيلي». ووجه بالرفض في بداية الأمر، فحصل اقتتال بين هذه الجماعات والجيش أثناء محاولة بعض المجموعات جلب كميات من الأسلحة من سفينة راسية قبالة سواحل «تلّ أبيب»، فاندلعت اشتباكات عنيفة بين الجانبين، ما أسفر حينذاك عن مقتل 16 من الأرغون وثلاثة من الجيش «الإسرائيلي».
أما بيغن فهو مؤسس حزب «الليكود» الذي اندمج مع حزب «حيروت» و«الحزب القومي اليميني»، الذي أُسّس عام 1948 ليكون بمثابة بديل للأرغون البائدة. ولقيَ تشكيل هذا الحزب استياءً كبيراً من قبل عدد من المفكرين اليهود كألبرت أينشتاين وحنة آرنت اللّذين أخذا على عاتقهما كتابة رسالة إلى صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية لتحذيرها من نيّة «إسرائيل» سلوك طريق التعصب الديني والقومي، والتفوّق العِرقي.
وكان هرتزوغ قد اتهم القيادة الحالية لحزب «الليكود» بحدّة، قاصداً بذلك نتنياهو، لسماحه بانزلاق الخطاب السياسي إلى هذا الجوّ من الكراهية والحقد. وهو يقول: بهذه الطريقة، تُزرع بذور الكراهية وتتنامى، ما قد يقود إلى حرب أهلية. ولم يكن هرتزوغ الشخصية السياسية الوحيدة رفيعة المستوى التي انتقدت المسار الذي تنتهجه «إسرائيل». فها هو موشيه يعالون، وهو رئيس الأركان السابق ووزير الدفاع، قد قدّم استقالته من وزارة الدفاع بعد سماعه أن موقعه هذا قد يُعزى إلى خصمه أفيغادور ليبرمان، أحد الشخصيات السياسية اليمينية المتشدّدة. ويدّعي يعالون أنه كان خائفاً على مستقبل «إسرائيل». وقبل مرور أسابيع قليلة، قارن نائب رئيس الجيش «الإسرائيلي» الجنرال يائير جولان، «إسرائيل» المعاصرة بألمانيا النازية إبان الثلاثينات من القرن الماضي.
ومما لا شك فيه، أن تصريحات هرتزوغ شديدة اللّهجة، تعكس ذلك النمط الراسخ في أسلوب نتنياهو الذي يبدو في كثير من الأحيان استقطابياً وحارقاً. وتأتي تعليقاته خلال الانتخابات الأخيرة، والمرتبطة باليسار السياسي «الإسرائيلي» المنهمك بمسألة الناخبين العرب «المتوافدين إلى مراكز الاقتراع بأعداد كبيرة». إن تصريحاته البغيضة هذه، والشبيهة بتلك المرتبطة بمسألة المهاجرين غير الشرعيين من أفريقيا السوداء والذين وصفهم بـ«المتسلّلين»، والذين ادّعى أنهم يهدّدون «هوية الدولة الإسرائيلية»، تأتي متشابهة مع خطابه الذي ألقاه أمام جمهور حاشد منتقداً فيه جهود إسحق رابين الرامية الى إحداث سلام مع الفلسطينيين، والتي أدّت في أماكن كثيرة الى حمل لافتات معارضة كُتب عليها عبارات نابية بحقّ رابين، تذكّرنا بالتنافر الدائم من قبل كثيرين ممن يعتبرونه مسؤولاً جزئياً عن اغتيال رابين على يد إيغال عمير.
إنه لمن الواضح أن التصريحات التي أدلى بها هرتزوغ، يعالون وجولان تشير إلى ازدياد وتيرة التطرّف في السياسة «الإسرائيلية»، وتعكس حقيقة أن الوضع المدني المتفاقم والذي قد يؤدّي إلى حرب ضروس، لا يزال أمراً مشكوكاً في صحته. قد يؤدّي هذا الاستنتاج إلى خلق أجواء مريحة لدى البعض أمثال هرتزوغ، الذي يراقب ما يدأب على وصفه بـ«الفاشية في مهدها إنما الآيلة إلى التطوّر والازدهار في المجتمع الإسرائيلي» إنها حالة عامة، ومن الشؤون التي تنبّأ بها آينشتاين وآرنت اللذان ذكرناهما سابقاً، واللّذان سبق وذكرنا أنهما حثّا الصهيونية الأميركية على عدم السماح بدعم بيغن في مشروعه الذي أطلقا عليه اسم «آخر مظاهر الفاشية».