هكذا أدار الأسد انهيارات حلب
روزانا رمَّال
يتحدث أحد ضيوف الرئيس السوري بشار الأسد لـ «البناء» عن زيارة قام بها إلى قصر الشعب أوائل الأزمة السورية عندما قصده مطمئناً من جهة ومعزياً من جهة أخرى، نتيجة ما عصف ببلاده من أحداث دموية وكان ذلك عام 2012 فيقول: «كنت مربكاً لا اعرف كيف أبدأ الحديث وبدأت بطرح الأسئلة على الرئيس فقلت ان شاء الله ستكون أزمة وتمرّ سريعاً»، فقال لي: «لا. إنها أزمة طويلة ونحن نعرف ذلك، لقد جاء كلّ العالم ليحاربنا، لكننا سننتصر». يكمل الزائر: «ذهلت لما سمعت ولمحت تعابير وجه الرئيس لكنه كان متبسماً ومطمئناً، الكمّ الهائل من الصلابة التي يتمتع بها هذا الرجل مدهشة، أسأل نفسي كيف استطاع أن يثق بالنصر في تلك اللحظة المبكرة. بدا الأسد حينها هو مَن يعطينا الدعم كزوار بدلاً من أن نعطيه إياه في لحظة غاب كثر عن سورية حتى من أصدقائها وزوارها. لم يتحدّث لحظة واحدة عن مخاوفه من خسارات او خوف لضياع محافظات لا في الشمال ولا في الجنوب.. النصر فقط ما يحيط بالرئيس السوري بشار الأسد، ثم يتوقف ليسأل عن أحوالنا، ويطمئن علينا. في هذه اللحظات ينقلك الأسد من حالة الى حالة تصغر أمامها مشاعرك التي كان يشوبها بعض «الحذر» بوجه كتلة ثقة وأعصاب حديدية».
ارتكز الرئيس الأسد منذ بداية الأزمة على قدرته على التأثير بجيشه وشعبه كاريزمياً ونفسياً بحضوره الدائم كصمام أمان للجيش السوري ويؤكد المعنيّين إدارته لأدقّ تفاصيل المعارك كعنصر على الأرض. فهو متابع لتفاصيل ميدانه وجيشه كافة. لا تغيب عنه «لا شاردة ولا واردة». بالتالي فإنّ حضوره الدائم على رأس مسؤولياته وتكراره حول استحالة ترك سورية للإرهاب شدّ عصب الشعب السوري الذي علق لفترة طويلة بين الطبقة الرمادية التي كادت تميل الى الاستسلام أكثر من مرة لولا أمل يبثه الأسد. وهنا ساهم تماسك الرئيس السوري أمام كلّ ما جرى، خصوصاً في أوائل الأزمة من انشقاقات واجتياحات للإرهاب واغتيالات كبرى أحد أبرز العوامل النفسية لثبات جيشه أولاً ومؤيديه ثانياً.
يلعب الأسد اليوم هذا الدور بحرفية مطلقة، يراقب حركة الميدان في الشمال ويسارع للتحرك المناسب بشكل فوري يدرك تماماً أنه عامل أساسي على طريق كسر معنويات المسلحين والحديث هنا عن معارك التطهير في حلب، خصوصاً ما عُرف بـ «حي بني زيد» الذي يقع على مشارف أحياء حلب الغربية، والذي اعتبر ولمدة أربع سنوات الحديقة الخلفية لحلب لتواجد المسلحين فيه واستهدافهم بشتى أنواع الأسلحة والطرق والأحياء الآمنة وتعديهم السافر والوحشي على كلّ شيء، من بشر وحجر… فاكتسب الحي أهمية عسكرية استراتيجية لجهة تأثيره على حسم معارك حلب، نظراً إلى ما كان يمثل من رمزية لموقع شديد التحصين في تلك السنوات كلّها.
لا يشكل انهيار المسلحين فيه أمراً طبيعياً ولا يشكل ايضاً فرارهم في غضون ساعات منطقاً طبيعياً في قتال كان من المفترض ان يكون ضروساً ومتماسكاً لدرجة استحالة الاستغناء عن «مقاطعة» من الأرض السورية اتخذت طابعاً وهوية تمركزت على أساسها معنويات باقي النقاط المحيطة بحلب. وهنا تتحدث المعلومات عن انهيارات توالت بعد سقوط هذا الحي ضمن عنوان أساسي هو: «إذا كان حي بني زيد قد سقط أمام الجيش السوري وحلفائه، فماذا عسانا نتمسك بالقتال أكثر؟».
بدت الحرب لوهلة حرباً نفسية بامتياز نسفت معها كلّ ما كان يُحكى عن متاريس ومدن وقصص بطولية خرافية للإرهاب الذي لا تمكن مواجهته. هكذا أريدَ للسوريين لسنوات أن يقتنعوا. واذ بالانهيار يأتي سريعاً بمجرد وقوع المنطقة تحت تأثير الاهتزاز الداخلي الذي حكم سلوك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي قلّص منسوب اهتمامه الى ما لم يعد ممكناً التعويل عليه في سورية، ببروز ما هو أهمّ. وفي هذه اللحظة اقتنص الرئيس الاسد الفرصة التي استطاعت اليوم تسريع عملية الاستسلامات والتموضعات الجديدة للمسلحين، وبذكاء مرفق بالحنكة أصدر الأسد مرسوماً تشريعياً يقضي بمنح عفو لكلّ من حمل السلاح أو حازه لأيّ سبب من الأسباب، وكان فاراً من وجه العدالة أو متوارياً عن الأنظار، بشرط أن يسلّم نفسه وسلاحه للسلطات السورية خلال 3 أشهر من تاريخ صدور المرسوم، وفي هذا الكثير مما يمكن أن يشكل عند أيّ مسلح سوري أملاً في تسوية أوضاعه إذا ما قدّم نفسه للجيش السوري، مستسلماً في حلب، او ربما إذا فرّ وعاد بعد أشهر لتسوية أوضاعه. وهنا دخل عامل اساسي على خط تسهيل الهروب وإعادة النظر بمجمل العملية العسكرية لدى المجموعات هناك.
يتقن الأسد استخدام ما يشرّعه الفكر السياسي ومناهجه، وما كان قد استخدم في الحروب العالمية متيقناً من آثار الحرب النفسية على العدو، فاستعمل القانون والتشريع للتأثير على آراء ومشاعر وسلوكيات المسلحين بطريقة تسهّل الوصول إلى الهدف. يعرف الأسد الذي يخوض حرباً نوعية لا يشاركه أيّ رئيس أو حاكم تجربته فيها أن كلّ إمكانيات الدولة، ومقدّراتها من سياسية، واقتصادية، وعسكرية، وإعلامية وقانونية مباحة في لحظة انتصار يلوح بالأفق، وبالتالي فانّ تدخل الأسد «المباغت» لن يكون الأخير في حربه مع الإرهاب.