الطلاق البائن…
د. رائد المصري
نحن اليوم نعيش طفرة الشيوخ وطرقهم وأسلوب عملهم في سابقة لم تشهدها المجتمعات العربية المسلمة منذ عشرات السنين، فكثرة هؤلاء الشيوخ ومَن يتبعهم أوجدت على ما يبدو حالة من فوضى الطرح الديني والعقائدي جعلت الوقوف على حقيقة الدين مخيفة، والقفز عنها للخلف رفضاً أو القفز للأمام تأييداً هو من أكثر المحظورات.
ففي المراحل التي سبقت تفريخ شيوخ الطرق، كان للغالبية العظمى من الناس شيخ واحد، يحقق الإجماع بينهم ممَّا يجعله يمارس وعظه بحرص شديد لأنه يعلم أنّ أيّ خطأ في طريقته سوف يؤدّي إلى ضلال أعداد كبيرة من الناس.
أغلب مشايخ الدين لدينا إما أنهم لم يكملوا دراستهم وتكاد تكون ثقافتهم ضحلة جداً، أو أنهم أكملوها من الطريق الأدبي، فمعلومٌ أنّ الأذكياء وذوي القدرة على الإبداع والابتكار يسلكون سبل الاتجاهات العلمية أو ممّن لديهم ميول علمية. وهنا يجب أن نعرف أنّ لمشايخ الدين دوراً بارزاً ومهماً في المجتمعات ولكن بالتأكيد ليس كنوعية أغلب المشايخ الذين نشاهد اليوم.
أخلص لأقول إنّ الحالة هذه لا تنطبق على مشايخ الدين الإسلامي الحنيف فقط، وممن باتوا يمتلكون ويتمتَّعون بكلّ الحصانات القانونية والدينية من دون محاسبة ولا رقابة في ما يفعلون وبما يجاهرون وحول ما يرتكبون من مخالفات، قد تفتك بالمجتمع وتحيله معطَّلاً عاجزاً لا حول له ولا قوة. بل تتعدّى هذه الحالة لتصيب رجال الدين المسيحيين وتفلّتهم كذلك من أية قوة قانونية أو أية رقابة قد تضع حداً لهؤلاء الذين باتوا يشكلون جيشاً من العاطلين من العمل.
فأخبار السمسرات والرشى والتعديات من قبل كُهَّان العصر وشيوخه نسمع عنها كلّ يوم تقريباً، مع مجهود مضاعف من قبل الإعلام بحجب النشر أو الخوف من النشر حتى لا يهتزّ «العرش الإلهي»، وحتى لا تُتَّهم الوسيلة الإعلامية أو ناقل الخبر وناشره بالكفر وبإقامة الحدّ عليه في ما بعد…
في مجمل القول هناك عوامل ثلاثة مفجِّرة للمجتمعات العربية والإسلامية نعني بها الجنس والسلطة والمال، فالحالة الجنسية طالما هي في دنيا العرب تشكِّل عقدة النقص وعلى جوانبها تتهدَّل اللِّحى والشِّفاه العطشى. يعني هناك مشكلة ما تُوجِب على القيّمين حلها. حتى القبول والرضى المتبادل ولو كان هذا العقد شريطة المتعاقدين فهو يَمنع المساس به ويُعتبر من المحرّمات الأبدية.
وكذا حال المال والطبقات الاجتماعية المتفاوتة والقهر الشعبي والفوارق الطبقية المخيفة في مجتمعاتنا، وهي غير تلك الموجودة في المجتمعات الأوروبية والأميركية إلاَّ من خلال تراكم الثروات وغنى المتموِّلين بمجهوداتهم الفردية، بحيث يستطيع الفرد اللجوء الى الطبابة والتعلُّم والضمان وغيرها كمثل سائر الناس، وها هو الغرب قد تجاوز بذلك العقدة الثانية المُفجِّرة مجتمعه.
أما الثالثة وهي السلطة بكلِّ مفاهيمها ومكوّناتها فنعني بها عملية الانقلاب الانتخابية التي تتمُّ بهدوء عند الغرب وبديمقراطية كلَّ أربع أو خمس سنوات في تداول جريء للسلطة، صحيح أنها يمكن أن تكون مشوَّهة ويشوبها التدليس والوعود الكاذبة، لكنها عملية مشروعة يمكن لها وبالتأكيد أن تنزع فتيل أيِّ تفجير مجتمعي لقلب الموازين والمعايير السياسية التي ارتضاها الناس ليحكموا.
إذن هي عوامل ثلاثة مفجِّرة للمجتمعات، ألا وهي الجنس والمال والسلطة خرج منها الأوروبي إلى برِّ الأمان وبنَى مجتمعاته المؤنسنة، أما في بلداننا العربية والإسلامية فلا تمكن المناقشة بها أو الحديث عنها أو التطرق إليها. وهي ستبقى كذلك عوامل تفجير واهتزاز للمجتمعات وتهديد لاستقرارها بشكل دائم. وليس أدلّ على ذلك من الحديث الدائم لكلّ القوى التكفيرية الظلامية عن جهاد النكاح والجنس والسبايا والاغتصاب، وجمع الثروات وبيع الآثارات والنفط، وإقامة «الدولة الإسلامية» وسطوتها وحكمها بهذا الشكل المخيف، في الوقت الذي تتزايد فيه تفريخات المشايخ ومعها استباحاتهم الخفية والظاهرة للعوامل السالفة الذكر، من دون وجود المحاكم أو أدوات الرقابة الفاعلة لثنيهم عمَّا يفعلون.
هو طلاقٌ يجب أن يكون مع هذا النموذج من رجال الدين، من كلِّ المِلل والطوائف والمذاهب، طلاقاً بائناً لا رَجعة فيه. فلا هم حصَّنوا المجتمعات من كلّ الآثام والموبقات، ولا هم وقفوا في وجه الفئة الضالة وخوارج العصر في مقارعة الحجَّة بالحجة لدحض أقوالهم وأفعالهم، بل كدَّس الغالب منهم الثروات وفاخر السيارات والبيوت والأثاث، وانبروا واعظين محصَّنين محميّين وبعيدين عن أيِّ مساءلة أو مطالبة بجرم يُرتكب أو معصية يقوم أحدهم بها.
هي دروب الآلام تخوضها الأمة وأمراض مجتمعية مزمنة تبدأ بالممارسات الخاطئة في التفسير الديني وتطبيقاته ولا تنتهي بنظم الحكم والموروث الاجتماعي الثقافي… فلا بدَّ من الطلاق مع كلِّ هذه الأمراض لفرض البيئة الصحية السليمة والخالية والتي تنطبق عليها شروط المواصفات المجتمعية الحقيقية.