«إسرائيل» خارج المعادلة العسكرية
ناصر قنديل
– بعد عشرين سنة على حلم شمعون بيريز بلعب «إسرائيل» القوية عسكرياً وأمنياً، دور المركز الاقتصادي الإقليمي الأول وقيادتها للشرق الأوسط، على كتف التحوّل الكبير الناجم عن نهاية الحرب الباردة وتحوّل أميركا إلى القوة العظمى الوحيدة الحاكمة في العالم، تسقط «إسرائيل» كقوة عسكرية وتصاب بالهزيمة الأشدّ تعقيداً في تاريخها، ومع هذا السقوط يبدأ أفول نجم الإمبراطورية التي حكمت الشرق لأكثر من نصف قرن.
– «إسرائيل» الثكنة العسكرية المدجّجة بالسلاح المتطوّر والمتفوّق، والمزوّدة بإرادة القتل بلا هوادة، وعزيمة الحسم السريع لحروبها، وتحقيق النصر الحاسم فيها، تخرج من حرب استنزاف أجبرت عليها، من دون أن يكون أمامها أيّ أفق للحسم أو أمل بالنصر.
– «إسرائيل» الثكنة التي أعدّت واستعدّت ليكون فائض قوّتها أساس وظيفتها السياسية والاقتصادية، تفقد كلّ شيء عندما تفقد صفتها كثكنة مهابة الجانب، وتغرق في حرب لها خريطة غير التي رسمتها، ونهاية غير التي خططت لها، فقد بات الخصم المُراد تصفيته شريكاً في رسم النهاية، منذ أجبرت «إسرائيل» على مغادرة جنوب لبنان كقوة احتلال عام 2000 من دون تفاوض ومن دون شروط ومن دون مكاسب، وتوالت النتائج التي لا تشبه ما كانت «إسرائيل» تريده من حروبها في عدوان تموز 2006 على لبنان، وحربي غزة السابقتين 2008 و2012، حتى جاءت هذه الحرب في ظلّ حسابات «إسرائيلية» جديدة سياسياً وعسكرياً لتلافي نتائج الحروب الفاشلة التي سبقتها، وجاء الفشل فيها مدوّياً لينعي إلى غير رجعة فرص ترميم «إسرائيل» لقدرتها الردعية.
– الجديد في هذه الحرب أنها تنهي اختبار ما أعدّته وراهنت عليه «إسرائيل» من متغيّرات، يفترض أن تحمل لها بشارة الخير بالتعافي من لعنة حرب تموز، فالوضع العربي تحت تأثير صداع الربيع العربي الذي يبدو واضحاً اليوم أنّ يد «إسرائيل» لم تكن بعيدة عنه، والقبة الحديدية الواقية من الصواريخ التي شكلت مصر التغيير النوعي لتوازن القوة بين «إسرائيل» وقوى المقاومة، وضعت بعناية أميركية «إسرائيلية» قيد التجربة وقد اكتمل بناؤها، وألوية الحرب البرية التي أصيبت وتعثرت في جنوب لبنان وفشلت في التقدّم خرجت من عشرات المناورات، التي قيل إنها أعادت تأهيلها لتحقيق الانتصارات، وجاءت النتيجة بالخيبة في كلّ اتجاه، فالمقاومة جاهزة ومستعدّة على رغم سوء الوضع العربي وتشظيه، وتآمر أغلب حكوماته عليها، والقبة الحديدية مشهد بصري مخادع بلا قيمة حقيقية، وألوية النخبة وفي طليعتها لواء جولاني تصبح خارج الحرب من الأيام الأولى.
– الجديد السياسي والعسكري في هذه الحرب، أنها أول حرب استنزاف كاملة تخوضها المقاومة، وتجهد «إسرائيل» بعد استنفاد الحرب لفرص تحقيق النصر على مكابدة مساراتها والعضّ على الجراح، أملاً بأن تؤدّي عملية القتل المفتوح والتدمير بلا هوادة، إلى الفوز بأول تجربة حروب الاستنزاف، أملاً بأن ينفذ صبر الشعب الفلسطيني المحاصر على تحمّل المذبحة المفتوحة، وسط صمت عالمي مستديم، أو تنفذ طاقة المقاومين على القتال أمام الطريق المسدود لانتزاع الحقّ بفك الحصار، والعجز عن الذهاب إلى حرب تحرير، أو أن ينفذ مخزون صواريخ المقاومة، ففازت المقاومة وشعبها بملحمة الواحد وخمسين يوماً، أطول الحروب العربية ـ «الإسرائيلية»، بعد حربي الاستنزاف مع الزعيمين جمال عبد الناصر وحافظ الأسد، وفاز الألفا شهيد والعشرة آلاف جريح في مباراة الصبر والتضحية، وصرخ «الإسرائيلي» قبل أن تظهر على الفلسطيني علامات التعب، حدث هذا في الميدان وفي ساحات التفاوض، كما حدث حيث كان البعض يريد تحويل التضحيات والدماء والانتصارات إلى رصيد للعبة الإقليمية التنافسية على ساحة المنطقة، والتي يبحث أطرافها عن أوراق ظنّ بعضهم أنّ المقاومة يمكن أن تكون جزءاً منها.
– الحصيلة الطبيعية للهزيمة «الإسرائيلية» هذه المرة، أنّ العاجز في غزة لن يتجرّأ على حرب في اتجاه آخر، لا مع لبنان ولا مع سورية ولا مع إيران، فـ»إسرائيل» تعلن دولة غير صالحة للحرب، وتوضع خارج المعادلة العسكرية، ولم يبق ما يمكن ترميمه ولا الرهان على إصلاحه، للتبشير بحرب يُكتب لها فيها النصر من جديد.
– معادلة جديدة تولد، و«إسرائيل» تخسر أطول حروبها وربما آخر حروبها.