لا للولايات المتحدة ولا لـ«داعش» في سورية
د. إبراهيم علوش
لطالما اشتهرت السياسة الخارجية السورية باستقلاليتها بغض النظر عن أي نقد آخر، محق أو مجحف، قد يوجه لها. ولم يكن لدى صناع السياسة السورية أدنى شك، طوال سني الأزمة، أن الحاضنة الحقيقية للتكفيريين هي حلف الناتو ومحور البترودولار، وأن التكفيريين تغلغلوا في ليبيا بحماية طائرات الناتو، وأنهم كانوا أكثر من استفاد من الفراغ الذي خلقه تدمير الولايات المتحدة للجيش والدولة الوطنيين عشية احتلال العراق، وأن الاصابع الأميركية لم تكن بعيدة عن تسيد الجماعات الليبرالية الملونة والإسلاموية، على حدٍ سواء، لما يسمى «الربيع العربي»، وقد تكرس ذلك رسمياً في الخطاب الإعلامي السوري، فلماذا تبدي سورية الآن الاستعداد للتعاون مع أي جهة، «بما في ذلك أمريكا وبريطانيا»، لمحاربة الإرهاب؟!! وماذا يعني ذلك؟ خاصة أن إبعاد «داعش» عن البشمركة كان سيؤدي بالضرورة لاستهداف لسورية وغيرها، كما أشرنا في مادة سابقة؟!
ليس قومياً من لا ينظر للسياسة اليومية من زاوية «السيادة القومية» أولاً، وقد انكشف الإسلامويون في «الربيع العربي» بجريرة تعاونهم مع الأمريكان والناتو وتهاونهم في القضايا الوطنية من أجل الوصول للسلطة. فلا يعقل الآن، في معرض تصدينا للتكفيريين مصاصي الدماء وأكلة لحوم البشر، أن نضحي بالسيادة القومية تحت أية ذريعة. وللعلم، أثارت التصريحات الرسمية السورية الأخيرة حول الاستعداد للتعاون مع الولايات المتحدة الكثير من اللغط في صفوف أنصار سورية في الشارع العربي، خاصة من القوميين، فلا بد من وضع هذه المسالة على بساط البحث من أجل الحفاظ على تراص الصفوف أساساً، ولأننا ندعم سورية على أساس مبدأ واضح لن نتردد بنقد سياساتها إذا حادت عنه لا سمح الله.
كان موقف سورية واضحاً، ومريحاً، في رفض أي ضربات جوية أو صاروخية أميركية أو غير أميركية للأراضي السورية بذريعة استهداف «داعش» بعدما بدأت الولايات المتحدة تستهدف «داعش» شمال العراق لإبعاده عن المناطق الكردية فحسب. وهو الموقف المبدئي الطبيعي الذي يليق بسورية وانتمائها القومي، لأن الدفاع عن السيادة لا يتجزأ، وقد وقفت سورية صامدة في عين العاصفة عقب احتلال العراق، كما وقفت وقفةً مشرفة دفاعاً عن احتضانها للمقاومات العربية، وعقب اغتيال الرئيس الحريري، ولم تنهر أو تهتز في عز التهديدات الأميركية بقصفها بعد تهم استخدام الكيماوي الملفقة، فدعم سورية ينبع أساساً من حرصها الذي عمدته بدماء رجالها ونسائها على استقلالها الوطني وكرامتها القومية.
فإذا كانت ما يجري في سورية، في أحد أهم جوانبه، هو دفاع الدولة والجيش الوطنيين عن النفس في مواجهة أدوات الإمبريالية والرجعية العربية من تكفيريين وغيرهم، فمن البديهي أن يكون الموقف من التدخل الإمبريالي المباشر نفسه أكثر وضوحاً وأقل التباساً حتى عند المتأثرين جزئياً بالإعلام الأصفر وخطابه، كما لاحظنا خلال التهديدات الأمريكية بضرب سورية مباشرة التي أسهمت بكشف طبيعة الصراع في سورية وزادت من شعبية القيادة والدولة والجيش العربي السوري في الشارع العربي.
من الواضح تماماً أن الغرب وصل إلى نقطة الآن لم يعد يملك معها أن ينكر أن الصراع يدور مع الجماعات التكفيرية، وان سورية تريد أن «تكشف ورقته» على هذا الصعيد بعدما تفاقمت الجرائم الجماعية الملتاثة لتلك الجماعات إلى حدودٍ لم يعد من الممكن تجاهلها، وبعد هيمنتها على ساحة «المعارضة» في أكثر من قطر عربي، لا في سورية فحسب.
من الواضح أيضاً أن سورية تريد أن تضع الغرب والأنظمة العربية أمام استحقاقات دعمه المطول لتلك الجماعات التكفيرية بالأسلحة والمال والسياسة والإعلام والدبلوماسية، وأن تحقق ذلك سوف يسهم بحل الأزمة السورية وأن يوقف نهر الدم السوري المُهَراق بشكلٍ أسرع.
من الواضح أيضاً أن الحديث عن الاستعداد للتعاون مع أمريكا وبريطانيا قد يكون خطوةً استباقية لكي لا يقول الناتو أن سورية أغلقت الباب في وجه التعاون ولذلك اضطررنا لاختراق سيادتها من دون استشارتها لاستهداف «داعش».
الأهم أن سورية أوضحت، بالتلازم مع الاستعداد للتعاون، أن دفاعاتها الجوية لن تتردد باستهداف أي طائرات غريبة تخترق مجالها الجوي، بذريعة «داعش» أو غيرها. وقد سبق أن أوضحنا في مادة سابقة بعنوان «داعش والقصف الأميركي للعراق» أن أحد الاسباب الموجبة لمعارضة القصف الأميركي لـ»داعش» في العراق وإدانته أنه سوف يستخدم كذريعة لقصف سورية بنفس الذريعة وأنه سيكون من المستحيل على من يوافق على مبدأ انتهاك السيادة الوطنية في العراق أن يرفضه في سورية أو غيرها.
النقطة هي أن التصريحات الرسمية السورية لا تزال في المنطقة الرمادية، وأنها وضعت الغرب ومؤتمر «أصدقاء سورية» المنعقد في جدة مؤخراً في حالة دفاعية، ولذلك يمكن القول أن تلك التصريحات تمثل، من منظور مبدئي، مناورةً سياسية مشروعة تماماً ما دامت في ذلك الإطار.
أما الخط الأحمر، الذي لا يجوز الاقتراب منه بأي حالٍ من الأحوال، فهو إعطاء أي ضوء أخضر سوري مباشر أو غير مباشر، معلن أو سري، لقصف الأراضي السورية بذريعة «داعش» أو غيرها. وحتى لو وضعنا الاعتبار المبدئي جانباً، سيفيد القصف الأمريكي «داعش» في الشارع العربي، ويزيد من شعبيتها وعدد من يودون الالتحاق بها، لأن الشعب العربي لا يزال، بالرغم من كل شيء، مناهضاً للطرف الأميركي ــ الصهيوني، وقد وظف ذلك الطرف الحركات التفكيرية جيداً لتحقيق غاياته الإستراتيجية، ويقوم الآن بمحاولة احتوائه في المناطق التي لا يجوز أن يخرج، كفيروس، منها، وهو ما لا يعني البتة أن الفيروس ليس صنيعة الأميركان والصهاينة كما يهرطق البعض.
المهم، الحل عربي. ومن يستعن بالغرب على «داعش» سيجد أنه كالمستجير من الرمضاء بالنار. فلو حشدت الدول العربية المهددة بالتكفير إمكاناتها لمواجهته، ستجدون الغرب يصطف مع «داعش» علناً.