تقرير
نشرت مجلة «دير شبيغل» الألمانية تحقيقاً للمراسلة الصحافية كاترين كانتز، تحدّثت فيه عن معاناة الأطفال في المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم «داعش»، وتعرّضهم لظروف نفسية قاسية.
تسرد كاترين حكاية طفلين إيزيديين، هما أحمد وأمير اللذين يبلغان 16 و15 سنة على التوالي، هربا من قبضة تنظيم «داعش»، وقد التقت بهما على سفوح الجبال الساحرة في دهوك الواقعة في شمال العراق في إحدى أمسيات الربيع الجميلة.
أثناء تصفحّهما قنوات التلفاز بحثاً عن مسلسل كرتون يناسب سنّهما، إذا بأحمد، الذي كان ممسكاً بجهاز التحكّم عن بعد، يمرّ على إحدى القنوات التابعة لتنظيم «داعش»، التي يسهل التقاط بثها هناك، فيصيح: «انظر يا أمير، هذان نحن!». يتعرّف الطفلان إلى نفسيهما من بين مجموعة من الأطفال يتّشحون بالسواد ويرتدون الأقنعة، وذلك في مخيّم تدريب تابع لتنظيم «داعش» في الموصل، المعقل القوي للمنظمة الجهادية الأشهر في الوقت الراهن.
تذكر الصبيان مدة الشهور التسعة التي قضوها في أسر التنظيم، فيتحدث أحمد بصوت أجشّ قائلاً: «أعطونا المخدّرات، فبتنا نصدّق كل مزاعمهم».
تصف كاترين ما يفعله التنظيم الإرهابي مع الأطفال الذين يطلق عليهم لقب «أشبال الخلافة»، فتقول إنه يستخدم الضرب والأسلحة لتحويلهم إلى مقاتلين صلبين، ثم يعدّهم لشنّ هجمات انتحارية ضدّ «الكفار» و«المرتدين»، وتصل الفظائع مداها، فيريهم عمليات قطع رؤوس حقيقية، حتى يتعلّموا القيام بها.
يقول التحقيق إن عدد الأطفال المقاتلين ليس معروفاً بالضبط، لكنه يقترب من حاجز 1500. بعضهم وُلدوا هناك، وبعضهم قدِموا مع أهاليهم من الخارج للانضمام إلى التنظيم، وآخرون إما يتامى انضمّوا طواعية أو مختطفون مثل أحمد وأمير.
كان الطفلان ينعمان بحياة جميلة في سنجار، قبل أن يهجم التنظيم على قريتهم في عام 2014. فسحبا الأخوين أمام أعين والديهما الذين لم يمتلكا إلا التلويح لهما عن بعد، واتجهوا بهما إلى تلّعفر العراقية، حيث صدر قرار حول كيفية الاستفادة منهما.
وقد جرى تقسيم الأطفال على مجموعتين، حسبما يصف الصبيّان. الصغار إلى مدرسة القرآن والعلوم الشرعية، وأُخذ الكبار إلى مخيم تدريب في الموصل.
يقول الخبراء إن التنظيم يعاني من نقص شديد في المقاتلين بسبب الحملة الشرسة التي تشنّها القوى الدولية ضدّه، ما حدا به إلى توجيه جانب كبير من الدعايات الإعلامية الخاصة به نحو الأطفال لتجنيدهم. وكان نيكيتا مالك، أحد الباحثين في مؤسسة «كويليام» البريطانية، قد كشف في دراسة له عام 2015 أن التنظيم يعتمد بشكل متزايد في العمليات الوحشية، لا سيما الإعدامات. وقد بث التنظيم عدّة إصدارات مرئية تظهر أطفالاً يقومون بعمليات إعدام بحق رهائن سقطوا في يد التنظيم خلال المعارك.
يقول مالك إن التنظيم يحاول إيصال رسالة مفادها «مهما فعلتم، سنربّي جيلاً متشدّداً هنا». ويهدف التنظيم إلى نشر أفكاره لدى القواعد الشعبية حتى تظل راسخة في منطقة ما حتى لو طُرد منها.
تعود كاترين إلى وصف أحوال أحمد وأمير في المخيم فتقول: «كانا يستيقظان لأداء صلاة الفجر، ثم يتعلمان كيفية التعامل مع الكلاشنكوف والمتفجرات». وكانا ينامان مساءً وهما في قمة التعب، ويفكران في والديهما الذين افتقداهما.
يتميز مقاتلو «داعش» بارتداء الجلباب الأفغاني. فارتداه الصبيان وأخذا إلى الجبهة للقاء العدو. وعندما علِم التنظيم بأنهما من الإيزيديين، هدّدهما بالقتل أو التحوّل إلى الإسلام. ويقول أمير إن التنظيم أعطاهما مخدّرات فتخلّصا من الخوف وتغيّر كل شيء. وكادا أن يعتقدا بكفر الإيزيديين.
بينما قال أحمد إنه كان قد أخفى هاتفاً محمولاً تحت إحدى الأشجار وكان يراسل والديه منه، وحين أُمسك به، تعرض لضرب مبرح فُكسرت إحدى أضلاعه، ولم تلتئم بالشكل المناسب، وتبرز العظام من فوق ملابسه، ما يذكّره ببشاعة ما مرّ به، بحسب قوله.
أخيراً، يقول التحقيق، وفي غفلة من حراس المخيم ليلاً، تمكّن الفَتَيان من الهرب برفقة صبيّيَن آخرين، وكان أحدهما مصاباً بشدّة في كلتا قدميه، فاضطروا إلى حمله معظم الطريق. واستمرت رحلة هربهم تسعة أيام، عانوا فيها من نقص شديد في المياه.
استفاد تنظيم «داعش» من برنامج تجنيد الأطفال الذي كان قد أطلقه الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين منتصف التسعينات تحت اسم «أشبال صدّام». ويعتقد أن آلاف الأطفال قد شاركوا في الدفاع عن العراق ضدّ الغزو الأميركي في 2003.
يجلس الطفلان الآن في مخيم للاجئين برفقة حشد من الأطفال. تقول أمهما إنها تأمل أن يعيش ابناها حياة الأطفال الطبيعية مجدّداً. يصرخان أثناء الليل بسبب كوابيس تراودهما من هول ما مرّا به، فتهدّئ من روعهما وتأتيهما بشربة ماء. ولأن الإكراه يأتي بنتائج عكسية، فحين اقتبسا آيات من القرآن أثناء حديثهما، وضعت يدها على فمهما لإسكاتهما.
تصف كاترين أسلوب التنظيم الملتوي في تجنيد الأطفال. يبدأ التواصل مع الأطفال بشكل ودّي عبر توزيع الحلوى والسماح لهم برفع علم التنظيم. وينشر التنظيم تعاليمه بين الأطفال في المدارس. ويمثّلون عمليات قطع الرؤوس على دمى ترتدي زيّ الإعدام البرتقالي. وينشرون تطبيقاً على الهواتف يحوي الأناشيد التي تمجّد التنظيم وتحثّ على الجهاد.
تقول كاترين إن التنظيم يتّخذ من تلك المدارس غطاءً لاختيار الأطفال المؤهّلين لخوض العمليات الحربية. حيث يجول كشافة تلك المدارس لانتقاء «أشبال الخلافة»، وما إن يقع عليهم الاختيار، يصعب عليهم الفرار منه.
تنتقل كاترين إلى سرد حكاية صبيّ آخر، إنه وهاد ابن الـ11 ربيعاً، الذي فرّ من إحدى مدارس القرآن التابعة للتنظيم في تلّعفر. وقد جلبه عمّه إلى مخيم تلقّي المساعدات في مدينة دهوك العراقية.
يشير التقرير إلى أن الأطفال الفارين من جحيم التنظيم لا يجدون ما يكفي من الدعم. يقوم موظف في مخيم استقبال الفارّين بجمع بيانات أولئك الأطفال على أمل تدشين حملة مساعدات لهم قريباً. إلا أن ذلك الموظف يقول إن الحكومة تعاني بالفعل من كثرة عدد حالات النساء اللاتي تعرّضن للاغتصاب التي يتعيّن عليها التعامل معها.
تصف كاترين حال وهاد، فهو يبدو مشتّتاً وغير قادر على الإجابة عن قائمة الأسئلة التي يريد منه الموظف أن يجيب عليها حتى تتكون لديه صورة أولية عن حالته.
وعندما يسأله عن ديانته، يجيب وهاد وقد احمرّت وجنتاه بأنه إيزيدي. يشعر الفتى بالخزيّ لأنه خان طائفته، حسبما يعتقد، وتحيّز إلى قاتليهم.
اعتبر التنظيم وهاد غير مناسب للقتال، فأرسله إلى مدارس القرآن. حُبس ما يقارب سنتين مع عشرات الأطفال الآخرين، حيث كان يجري إيقاظهم فجراً للصلاة، ثم يمضون سبع ساعات في تعلّم القرآن على وعد من معلّمتهم برؤية أمهاتهم إذا ما أحسنوا التصرّف.
بات وهاد غير قادر على الكلام بسبب ما يعانيه من صدمة، حسبما يذكر التقرير، رغم أنه لم يخض أيّ معارك. ويقول أطباء في مركز الصحة النفسية في دهوك إن عدداً من الأطفال يعانون من الاكتئاب بسبب ما لاقوه من معاملة وحشية على أيدي التنظيم وأن بعضهم يحاول الانتحار.
وتقول إحدى المعالجات النفسيات إن بعض الأطفال حاولوا إيذاءها بالطرق التي عايشوها برفقة التنظيم، كإطفاء السجائر في جسدها أو خنقها بحبل.
يقول عمّ وهاد إن أحد الأطفال حاول الفرار ذات مرّة من قبضة التنظيم، فقاموا بقتله وإلقاء جثته بين باقي الأطفال لبثّ الرعب في نفوسهم وثنيهم عن التفكير في السير على خطاه.
يقف وهاد يراقب الأطفال وهم يلعبون في أحد شوارع دهوك وهو غارق في أفكاره. ويحكي عمّه كيف أنه هو نفسه كاد أن يكون ضمن ضحايا تنظيم «داعش»، لكن الأقدار شاءت أن يظلّ حياً من بين 380 إيزيدي أجهز عليهم التنظيم حين هاجم قريتهم، حيث وُضعوا صفاً ورُمِيوا بالرصاص، لكن أعضاء التنظيم ظنّوا أنهم قد قتلوه، وتحلّى هو بما يكفي من الذكاء ليتظاهر بالموت، حتى عثر على النجدة.
يحاول عمّ وهاد أن يعيد بناء حياة ابن أخيه: «سأصحبك إلى الحديقة في الغد، وأجعل منك شخصاً قوياً» يعده عمه. فيردّ وهاد: «أجل، قويّ كالمحاربين».