كيف هَزَمَ حزبُ الله «إسرائيل»؟
ترجمة وإعداد: ليلى زيدان عبد الخالق
لا شكّ في أنّ الانتصار الكبير الذي حقّقته المقاومة على الجيش الصهيوني في تمّوز 2006، ملأ الدنيا وشغل الناس، وحيّر الدول العظمى، وأصاب بعضها بإحباطٍ ما بعده أحباط، وجعل بعض الدول العربية المتعاونة حتى النخاع مع الكيان الصهيوني تشعر بذلّ ما بعده ذلّ، خصوصاً بعدما وصفت قتال حزب الله ضدّ الصهاينة بـ«المغامرة». وفي المقابل، شعرت قلوب جمهور المقاومة والشعوب العربية المتحرّرة من قيد الاستزلام للصهاينة، بمشاعر العزّ والإباء والبطولة.
ولا شكّ في أنّ هذا الانتصار الكبير، شغل المحلّلين العسكريين، محليّين وعالميين، فكيف لمقاومة أن تكسر شوكة «الجيش الذي لا يُقهَر»، لتتحوّل الضمّة على الياء في «يقهر» إلى فتحة ، فيصبح هذا الجيش ـ الجيش الصهيوني ـ جيشاً لا يَقهر، ولا قوّة لديه لأن يَقهر، إذ إنّ الذلّ سيلحق به حتى اضمحلاله.
كثرت التحليلات العسكرية، وكثرت المقالات الصحافية، والمقابلات التلفزيونية التي حاولت تفنيد هذا الانتصار وتحليله وفكّ عقده. وفي ما يلي، قراءة من ثلاث حلقات، ننشرها تباعاً، قدّمها كل من آلاستير كروك ومارك بيري لصحيفة «آسيا تايمز».
وتجدر الإشارة إلى أنّ الكاتبين آلاستير كروك ومارك بيري، شاركا في إدارة منتدى النزاعات، وهي مجموعة مقرّها لندن تكرّس عملها للانفتاح على الإسلام السياسي. وكروك هو المستشار السابق للممثل السامي للأمم المتحدة في الشرق الأوسط خافيير سولانا، كما شغل منصب موظف في لجنة «ميتشيل» للتحقيق في الأسباب التي أدّت إلى الانتفاضة الفلسطينية الثانية. أما بيري فهو سياسيّ ومستشار في واشنطن وألّف ستة كتب عن تاريخ الولايات المتحدة، فضلاً عن أنه عمل سابقاً كمستشار شخصيّ للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
الحلقة الأولى من هذا التقرير، تتناول تفوّق حزب الله استخبارياً على الكيان الصهيوني.
كسب المعركة الاستخبارية
بعد مرور خمس سنوات على هجمات 11 أيلول 2001، نشر الخبير العسكري الأميركي أنتوني كوردسمان دراسةً حول صراع «إسرائيل» ـ حزب الله، بعنوان «الدروس الأولية المستقاة من حرب إسرائيل حزب الله». وقد حازت هذه الدراسة على اهتمام كبير في البنتاغون، إذ خضعت للتدقيق من قبل المخطّطين في هيئة الأركان المشتركة في واشنطن. غير أنّ هذا لم يمنع كوردسمان من التأكيد على أن استنتاجاته المتواضعة كانت محقّة للغاية.
ومع اعترافه بأن دراسته ليست فقط «أوّلية»، أقرّ كوردسمان أنها لم تأخذ في الحسبان قتال حزب الله في هذا الصراع، أو الحكم على نتائجه.
«إن هذا التحليل… محدود»، يشير كوردسمان، «لأنني لم أزر لبنان أو حزب الله». وعلى رغم كون هذه الدراسة غير مكتملة، غير أنها نجحت في تحقيق هدفين اثنين: تزويد المؤسسة بفهم جيد للحرب من وجهة نظر «إسرائيلية»، وإثارتها تساؤلات كثيرة عن كيفية قتال حزب الله في هذه المعركة ومداه. وعليه، فسنحاول في ما يلي ملء بعض الفراغات في دراسة كوردسمان هذه.
كذلك، فإن الصورة التي سنقدّمها هنا، ستكون محدودة. فمسؤولو حزب الله لن يتحدّثوا في العلن ولا للتسجيل حول كيفية قتالهم، لن يقدّموا أيّ تفصيل عن انتشارهم، فضلاً عن أنهم لن يناقشوا استراتيجيتهم المستقبلية. ومع ذلك، فإن الدروس المستقاة من الحرب ـ من وجهة نظر حزب الله ـ قد بدأت للتوّ بالاستفادة من بعض الدروس الصغيرة من قبل المخطّطين والاستراتيجيين الأميركيين و«الإسرائيليين». وتستند ملاحظاتنا هذه إلى: التقييمات على أرض الواقع، والتي أُجريت خلال الحرب، المقابلات التي أُجريت مع الخبراء العسكريين «الإسرائيليين»، الأميركيين والأوروبيين، وعلى تعزيز فهم الصراع الناشئ من النقاشات مع الاستراتيجيين العسكريين، فضلاً عن شهادات شبكة من كبار المسؤولين في الشرق الأوسط، ممّن أبدوا اهتماماً مكثّفاً بنتائج الحرب.
يعارض استنتاجنا العام وجهة النظر الحالية للبيت الأبيض والمسؤولين «الإسرائيليين»: من أن الهجوم «الإسرائيلي» على لبنان قد أضرّ كثيراً بقدرة حزب الله القتالية، ومن أنّ «إسرائيل» قد نجحت فعلاً في الحدّ من قدرة حزب الله على الانتصار في الصراعات المستقبلية، ومن أن نشر عناصر من جيش الدفاع «الإسرائيلي» في الجنوب اللبناني، من شأنه تحقيق الغلبة على الخصوم، وإملاء التسويات المواتية للمؤسسة السياسية «الإسرائيلية».
والعكس هو الصحيح تماماً. منذ بداية الصراع إلى العمليات العسكرية الأخيرة، استطاع قادة حزب الله ـ بنجاح ـ اختراق دورة القرارات «الإسرائيلية» الاستراتيجية والتكتيكية، ما مكّن الحزب من إحراز نصر حاسم وكامل في حربه مع «إسرائيل».
حرب الاستخبارات
في أعقاب الصراع، اعترف أمين عام حزب الله السيّد حسن نصر الله أن الردّ «الإسرائيلي» على خطف اثنين من جنود الجيش «الإسرائيلي» وقتل ثمانية آخرين في تمام الساعة 9:04 من صباح 12 تموز عام 2006، جاء مفاجئاً لقيادة الحزب. أنهى تصريح نصر الله التعليقات الصحافية القائلة إن حزب الله قد تعمّد إشعال فتيل الحرب مع «إسرائيل»، ومن أن عملية الخطف جاءت جزءاً من مخطّط مرسوم مسبقاً من قبل حزب الله وإيران. وبينما أوضح حزب الله عن نيّته منذ سنوات عدّة خطف جنود «إسرائيليين»، فيبدو أن هذا لم يكن متوقّعاً حدوثه خلال شهور الصيف. أي إبان زيارة عدد من العائلات الشيعية الثرية لبنان وصرف معظم أموالها في المجتمعات الشيعية ، وأثناء توافد الخليجيين العرب إلى لبنان بأعداد كبيرة.
كما أن حزب الله لم يقم بتنسيق نشاطاته هذه مع «حماس». فقد دُهشت هذه الأخيرة أيضاً بعملية الخطف. وبينما انبرى قادة «حماس» إلى الدفاع عن تصرّفات حزب الله، فإنه لمن السهل أن نرى لِمَ لم يسرّهم هذا الأمر كثيراً: فعلى مدار أيام الصراع، شنّت «إسرائيل» عدداً من العمليات العسكرية ضدّ «حماس» في غزّة، وقتلت العشرات من المقاتلين فضلاً عن المدنيين. وبالكاد تمكّن أحدٌ في الغرب من ملاحظة هذا الاعتداء، وبالتالي أُعيد إحياء القول المأثور أنه «عند اشتعال الشرق الأوسط، فإن الفلسطينيين يصبحون طيّ النسيان».
وفي الحقيقة، فإن خطف اثنين وقتل ثمانية آخرين من قبل عناصر حزب الله، فاجأ عدداً من القياديين في الحزب، الذين كانوا يدركون جيداً أن عناصرهم متواجدون على التخوم مع «إسرائيل» بهدف كشف مواطن الضعف العسكرية «الإسرائيلية» هناك. علماً أن نصر الله نفسه، كان قد أعلن مراراً عن نيّته خطف جنود «إسرائيليين»، بعدما نكث آرييل شارون وعده بالإفراج عن الأسرى المنتمين إلى حزب الله، بعد عملية التبادل الأخيرة التي حصلت بين الطرفين.
وفي الواقع، فإن عمليات الاختطاف كانت سهلة للغاية: فالجنود «الإسرائيليون» قرب الحدود ينتهكون الإجراءات التنفيذية، وآلياتهم التي تتمركز حولها وفيها قيادات عسكرية «إسرائيلية» على مستوى رفيع، جميعها على مرأى مواقع حزب الله وتشكّل هدفاً لنيرانها. ونشير هنا، إلى أن وسائل الإعلام الغربية تسيء دوماً فهم الأحداث المتعلقة بـ«الحدود الإسرائيلية» ـ اللبنانية وتغطيتها. فصحيفة «هاآرتس» العبرية أكدت هذا الواقع عندما ذكرت «أن قوةً من الدبابات وناقلات الجند المدرّعة، أُرسلت على الفور إلى لبنان في مطاردة ساخنة، وذلك حوالى الساعة 11 صباحاً… دبابة ميركافا تحتوي على قنبلة تزن من 200 300 كلغ من المتفجرات، لتمشّط نحو 70 متراً من السياج الحدودي الشمالي. وقد دُمّرت هذه الدبابة على الفور وقُتل أفراد طاقمها الأربعة. وعلى مدى الساعات القادمة، شنّ جيش الدفاع الإسرائيلي معركةً شرسةً ضدّ مقاتلي حزب الله… وأثناء هذه المعركة، وحوالى الساعة 3:00، قُتل جنديّ آخر وأُصيب اثنان بجروح طفيفة».
جاءت عملية الاختطاف كبداية لسلسلة من الأخطاء الفادحة التي ارتكبها الجيش «الإسرائيلي»، والذي كان يُضاعف من عديد قادته وعناصره خارج حدوده الطبيعية. وكان عدد من أفراد دورياته يُمضون أيامهم الأخيرة لانتشارهم في الشمال، مقلّلاً من ساعات حراسته. ولم يكن فعل حزب الله في قتل ثمانية جنود «إسرائيليين» وخطف اثنين هو السبب. فهؤلاء الثمانية قتلوا عندما أمر قائد الحدود «الإسرائيلي»، والذي يبدو أنه أُحرج كثيراً بسبب خطف الجنديين، بملاحقة المركبات المدرّعة للخاطفين. حيث انتشرت هذه العربات المدرّعة في شبكة ألغام مضادّة للدبابات ودمرتها. فقُتل الجنود الثمانية خلال هذه العملية، أو نتيجة للأعمال القتالية الفورية التي تلت حدوث ذلك.
يمكن لوحدة من الجيش «الإسرائيلي» أن تهيم على وجهها قرب الحدود من دون أن تغطيها النيران «الإسرائيلية»، وأن تكون هدفاً سهلاً لهجمات حزب الله. ما دفع المسؤولين «الإسرائيليين» إلى التساؤل حول إمكانية أن تكون تلك الدورية قد تصرّفت خارج نطاق سلسلة القيادة. ويبدو أن لجنة تحقيق داخلية، قد عقدت، في أعقاب الحادث، اجتماعاً لقادة جيش الدفاع «الإسرائيلي»، للتحقيق وتحديد الوقائع في هذه المسألة، وطالبت بمراجعة إجراءات الجيش «الإسرائيلي» لجميع الوحدات التي تعمل على طول «الحدود الشمالية لإسرائيل». ولم يُبلّغ إلى الآن عن أيّ نتائج توصّلت إليها اللجنة.
وعلى رغم تفاجئهم بردّ الفعل «الإسرائيلي»، فقد وُضع مقاتلو حزب الله في الجنوب اللبناني على أهبة الاستعداد الفوري بعد مرور دقائق فقط من اختطاف الجنديين. وهذا التأهب الدائم لمقاتلي حزب الله، جاء نتيجة ستّ سنوات من العمل الدؤوب، الذي بدأ مع الانسحاب «الإسرائيلي» من المنطقة عام 2000. حيث صُمّمت مبان كثيرة ومخابئ القيادة من قبل مهندسي حزب الله بطريقة هندسية محصّنة، حتى أن بعضها كان مزوّداً بمكيفات للهواء. وقد رافق حفر الترسانات خلال السنوات السابقة، استخدام برامج للخداع، كمثل إنشاء المخابئ في العراء، وغالباً تحت أعين الطائرات «الإسرائيلية» من دون طيّار، أو على مرأى من المواطنين اللبنانيين ممّن لهم صلات وثيقة مع «الإسرائيليين». ومع وجود بعض الاستثناءات، فإن جميع هذه المخابئ كانت شراكاً خداعية. بينما جاء بناء المخابئ الأخرى في مناطق خفيّاً عن السكان اللبنانيين. حيث حُفرت أهمّ مخابئ القيادة ومستودعات الأسلحة في مكان ما بعمق 40 متراً في التلال الصخرية. وقد وُضع ما يقارب 600 مخبأ للذخيرة في أماكن منفصلة في المنطقة الكائنة جنوب الليطاني.
ولأسباب أمنية، لا يعرف أيّ قائد مكان أيّ مخبأ، أو حتى الموقع الذي يقع فيه هذا المخبأ، كما يُسمح لكلّ وحدة من مليشيات حزب الله بالدخول إلى ثلاثة مخابئ فقط ـ أي مخبأ أساسي ومستودعان للذخيرة ـ في حال دُمّر المخبأ الأساسي. كما تمّ تعيين الجهات الأساسية والاحتياطية المنفصلة أيضاً عن الوحدات القتالية المتميزة، والتي تنحصر مهمتها في التسليح والمحاربة داخل مناطق القتال المحدّدة. كما يجري الحفاظ على البروتوكولات الأمنية لتعبئة القوات. واللافت أنه ما من أحد من عناصر حزب الله يدرك هيكل المخبأ العسكري أو تصميمه بشكل كامل.
استُهدفت الترسانات ونقاط التعبئة في حزب الله من قبل القوّات الجوّية «الإسرائيلية» في الساعات الـ72 الأولى لبدء الحرب. وكان القادة «الإسرائيليون» قد تمكّنوا من تحديد مواقع هذه المخابئ من خلال التقارير الاستخبارية كمثل إشارات الاعتراض لاتصالات حزب الله وصوَر الأقمار الصناعية الاستطلاعية، والتي تمكّنوا من التقاطها بفضل التعاون مع الجيش الأميركي وتحليل الصوَر نتيجة لتحليق الجبهة في المنطقة، وصور من طائرات من دون طيار نُشرت فوق الجنوب اللبناني. والأهم من هذا كلّه، شبكة من المصادر البشرية الموثوقة والتي تمّ تجنيدها من قبل ضباط استخبارات الجيش «الإسرائيلي» الذين يعيشون في جنوب لبنان، بما في ذلك عدد كبير من الأجانب غير اللبنانيين المسجّلين كعمّال أجانب في البلاد.
فشل الهجوم الأوّلي على نقاط التعبئة ومخابئ الأسلحة المتعدّدة، والتي شنّتها «إسرائيل» خلال الساعات الـ72 الأولى. وفي 15 تموز، استهدف القوّات الجوّية «الإسرائيلية» مواقع حزب الله القيادية في بيروت. أيضاً وأيضاً فشل هذا الهجوم في تحقيق أهدافه. لم تُقتل أيّ شخصية سياسية قيادية من حزب الله، على رغم إصرار «إسرائيل» المستمرّ على أن القيادة العليا للحزب تعاني من خسائر فادحة.
ووفقاً لمسؤول أميركي واحد، ممن راقبوا الحرب عن كثب، فإن الهجوم الجوّي «الإسرائيلي» قد أثّر على الموارد العسكرية لحزب الله فقط بنسبة 7 في المئة في الأيام الثلاثة الأولى من القتال، مؤكداً على أن الهجمات الجوية على مواقع حزب الله كانت غير مجدية على الإطلاق.
وتفيد التقارير بأن القيادة العليا لحزب الله، كانت قد لجأت إلى السفارة الإيرانية في بيروت والتي لم تمسّها الهجمات «الإسرائيلية» بأيّ أذى ، وهذ الأخبار اتّضح أنها ملفّقة وغير صحيحة، علماً، أنه من غير المعروف بتاتاً مكان احتماء قيادات حزب الله. «حتى أنا لم أكن أعرف أين أنا»، هذا ما كان قد أسرّ به أمين عام حزب الله السيّد حسن نصر الله لأحد مساعديه. ومع ذلك، فهذا لا يبرّر تدمير القوات الجوية «الإسرائيلية» البنيةَ التحتية في لبنان، بهدف إضعاف قدرة حزب الله العسكرية في الأيام القليلة الأولى منا لحرب.
دعت المخطّطات العسكرية «الإسرائيلية» إلى قصف مبكر ومتواصل للطرقات السريعة والموانئ الرئيسة في لبنان، فضلاً عن خطّتها تدمير الأصول العسكرية والسياسية لحزب الله. لم تخفِ الحكومة «الإسرائيلية» نواياها تقويض دعم حزب الله في المناطق المسيحية، السنيّة والدرزية. وذلك، لمعاقبة لبنان على إيوائه حزب الله وتحويل نظرة الشعب اللبناني إليه على أنه مليشيا، وهذا كان مخطّط «إسرائيل» منذ اندحارها من الجنوب اللبناني عام 2000.
وبينما أعلن مسؤولو الجيش «الإسرائيلي» بثقة كاملة عن نجاحهم في هذا الهجوم، أوصى قادتهم رئيس الوزراء إيهود أولمرت الموافقة على زيادة الطلعات الجوية ضدّ المخابئ المحتملة لقيادات وأسلحة حزب الله في المناطق التي استُهدفت هامشياً في الأيام الأولى للحرب. وافق أولمرت على هذه الهجمات، مدركاً في قرارة نفسه أنه عند اتخاذه مثل هذا القرار، أنه وجميع عناصر قيادته يعترفون بمدى المبالغة في نسبة الأضرار التي يدّعون أنهم ألحقوها بحزب الله.
وجاءت مجزرة قانا نتيجةً طبيعيّة لموافقة أولمرت على توسيع الأهداف العسكرية. وقد صرّح أحد المسؤولين العسكريين الأميركين ممّن رصدوا هذا الصراع، حول استهداف قانا: «لم يكن الأمر بهذا التعقيد. فبعد الفشل الذريع الذي مُني به الإسرائيليون في الهجوم الأوّلي، خطّطت القوات الإسرائيلية الجوّية، العودة إلى حيث بدأت ضرباتها خوفاً من أن تكون قد نسيت شيئاً. وعندما قرّروا أنهم لم ينسوا، قد يكون أحدهم خرج من الغرفة وما لبث أن عاد محمّلاً بقائمةٍ من الأهداف الجديدة للمناطق المكتظة بالسكان، وأعلن: لكن مهلاً، وماذا عن هذه الأهداف؟ وهكذا فعلوها». إذاً، إن قصف الأهداف القريبة جداً من المناطق السكنية في الجنوب اللبناني هي التي نتج عنها الفشل «الإسرائيلي» في الحرب، لا النجاح من دون أدنى شك.
إن توسيع رقعة الأهداف صعّد إلى حدّ كبير من الصراع فبعد شعورها بالإحباط بسبب عدم قدرتها على تحديد مواقع حزب الله الرئيسة وتدميرها، بدأت القوات الجوّية «الإسرائيلية» بقصف المدارس، التجمّعات السكنية والجوامع بذريعة وجود مخابئ لحزب الله داخل هذه التجمّعات المدنية أو تحتها.
تساءل ضباط الجيش الجوّي كثيراً عن مدى قدرة حزب الله على استكمال الهجمات الصاروخية على «إسرائيل»، ما يعني استمرار إمداد مليشياته بشكل دائم. قانا هي مفترق طرق، تتقاطع فيها خمس طرق سريعة منفصلة، وتقع في قلب مناطق حزب الله. لذا، جاء قصف قانا تأكيداً على أن حزب الله، بقي مستكملاً عملياته بسبب الإمدادات التي يحصل عليها من تقاطع الطرق هذا في البلدة.
وفي الحقيقة، فإن كبار قادة الجيش «الإسرائيلي» كانوا مدركين تماماً أن توسيع رقعة الأهداف في لبنان من شأنه أن يضعف إلى حدّ ضئيل فقط من قدرة حزب الله العسكرية، لأن الحزب كان يحافظ على القيام بهجماته من دون أدنى أمل باستمرار التمويل والتسليح، وبسبب اعتماده على مخابئ الأسلحة والصواريخ التي بُنيت لهذا الغرض. وفي أعقاب مجزرة قانا، التي راح ضحيتها 28 مدنياً، وافقت «إسرائيل» على وقف لإطلاق النار مدّته 48 ساعة.
قدّم وقف إطلاق النار الدليل الأول على أن حزب الله قد صمد بنجاح أمام الضربات الجوية «الإسرائيلية» المكثّفة، وأنه كان يخطّط لدفاع متواصل وطويل الأمد في الجنوب اللبناني. رحّب قادة حزب الله بقرار وقف إطلاق النار، ووافقوا على عدم استهداف الأراضي التي تحتلها «إسرائيل» خلال هذه الفترة. وبينما تجاهل «الإسرائيليون» وخبراء الاستخبارات في الغرب أهمية قبول حزب الله بهذا الشرط خلال الهدنة، فإن قدرة الحزب على فرض الانضباط على قادته الميدانيين، جاء صادماً، غير متوقع، وغير مرغوب فيه من قبل كبار قادة الجيش «الإسرائيلي»، الذين خلصوا إلى أن قدرات اتصالات حزب الله تمكنت ـ وبنجاح ـ من تجاوز الهجمات الجوّية «الإسرائيلية»، وأن هؤلاء القادة قادرون فعلاً على الحفاظ على شبكة اتصالات قوّية على رغم الحظر «الإسرائيلي».
وببساطة أكثر، فإن قدرة حزب الله على إيقاف إطلاق النار تعني أن هدف «إسرائيل» من فصل مقاتلي حزب الله عن هيكل قيادتهم والذي يُعتبر ضرورياً من قبل الجيوش الحديثة التي تشنّ حرباً تكنولوجية متطورة على الأرض قد باء بالفشل. واستطاع قائد القوات الجوية التوصّل إلى استنتاج واحد: أنّ معلومات ما قبل الحرب والتي تؤكد على قدرات حزب الله العسكرية، كانت في أفضل أحوالها، ناقصة بحالة يُرثى لها، أو في أسوأ حالاتها مخطئة بشكل قاتل.
وفي الواقع، وعلى مدى سنتين من الزمن، أظهر مسؤولو الاستخبارات في حزب الله قدرات كبيرة لناحية مكافحة التجسّس. فهم كانوا قادرين طوال فترة الحرب على التنبّؤ بالوقت والمكان اللذين ستضرب فيهما الصواريخ «الإسرائيلية». وعلاوةً على ذلك، تمكّن حزب الله من تحديد الأصول البشرية للاستخبارات «الإسرائيلية» الرئيسة في لبنان. وقبل شهر واحد من اختطاف حرس حدود الجيش «الإسرائيلي» والهجوم «الإسرائيلي» اللاحق، كان مسؤولو الاستخبارات اللبنانية قد فكّكوا شبكة تجسّس «إسرائيلية» كانتن تعمل داخل البلاد.
اعتقلت الاستخبارات اللبنانية بالتعاون مع استخبارات حزب الله 16 جاسوساً «إسرائيلياً» على الأقلّ في لبنان، علماً أنهم فشلوا في إيجاد المسؤول عن هذه المجموعة أو اعتقاله. كذلك، وعلى مدى سنتين أي منذ 2004 وحتى عشيّة الحرب، نجح حزب الله في تحويل أنظار الاستخبارات «الإسرائيلية» عن عدد من الأصول المدنية اللبنانية والمواقع أو المخابئ العسكرية الكبيرة للحزب في جنوب لبنان. وفي بعض الحالات القليلة الأهمية، تمكّن كبار مسؤولي الاستخبارات في حزب الله من تضليل «إسرائيل» وإرسال معلومات خاطئة، على أنها تدلّل على أهم مواقع مليشياتهم، ما نتج عنه أن بنك الأهداف «الإسرائيلية» في الحرب لم يكن بمعظمه موجوداً أصلاً.
وأخيراً، فإن قدرات حزب الله على اعتراض تصرّفات «إسرائيل» وقراءتها، كان لها تأثيراً قوياً وحاسماً على الحرب البريّة المقبلة. وكان مسؤولو الاستخبارات في حزب الله قد طوّروا من قدرات إشاراتهم الذكية إلى حدّ استطاعت معه اعتراض الاتصالات البرّية «الإسرائيلية» بين القادة العسكريين «الإسرائيليين». والمعروف أنّ «إسرائيل» تعتمد على مجموعة متطوّرة للغاية من التردّدات والتقنيات التي من شأنها السماح لقادتها التواصل مع بعضهم للتقليل من قدرة حزب الله في تكنولوجيا مكافحة الإشارات. وسيكون لهذه النتيجة تأثير حاسم على التكهّنات «الإسرائيلية» بأن عنصر المفاجأة وحده كان يمكن أن يوفّر هامشَ الفوز لجنودها.
ومن الواضح الآن، أن السياسة «الإسرائيلية» قد صُعقت بسبب فشل قوّاتها في تحقيق أول الأهداف العسكرية في الحرب ـ بما فيها تهتّك ترسانة حزب الله وتدمير قدراته القيادية. غير أن المؤسسة «الإسرائيلية» لم تفعل شيئاً لتتحضّر للأسوأ القادم: الاجتماع الأول لمجلس الوزراء الأمني القومي في أعقاب اختطاف الجنديين في 12 تموز، والذي استمرّ ثلاث ساعات. وبينما أصدر أولمرت ومجلس وزرائه المصغّر تفاصيل دقيقة لخطة الجيش «الإسرائيلي» في الأيام الثلاثة الأولى من الحرب، إلا أنهم فشلوا في توضيح الأهداف السياسية في أعقاب الصراع أو رسم استراتيجية للخروج السياسي من الحرب في حال الفشل.
انتهك أولمرت ومجلس وزرائه المصغّر المبدأ الأول للحرب ـ وأظهروا ازدراءً واضحاً لعدوّهم. ففي نواحٍ كثيرة، وقع أولمرت وحكومته أسرى الاعتقاد عديم الجدوى في فعالية الردع «الإسرائيلي». كما نظروا ـ كما فعل الرأي العام «الإسرائيلي» ـ إلى أيّ تشكيك في قدرات الجيش «الإسرائيلي»، على أنه تدنيس للمقدّسات.
كان فشل الاستخبارات «الإسرائيلية» أثناء الصراع كارثياً. وقد عنى ذلك أنه بعد فشل الحملة الجوّية «الإسرائيلية» في ضرب ترسانة حزب الله، وتحديداً خلال الساعات الـ72 الأولى من الحرب، أنها كانت فرصة لـ«إسرائيل» تمكّنها من تحقيق نصرٍ حاسم ضدّ حزب الله على نحو متزايد وغير متوقّع.
«خسرت إسرائيل الحرب في الأيام الثلاثة الأولى»، يصرّح أحد الخبراء العسكريين الأميركيين. «فإذا ما كنتَ تملك هذه القدرة على إحداث المفاجآت، وذلك النوع من القوة التسلّحية، فكان بإمكانك أن تربح. وإلّا فأنتَ تعيش وهماً وضياعاً».
وما لبث أن استنتج كبار ضباط الجيش «الإسرائيلي» أنه بالنظر إلى فشل الحملة الجوّية، فهناك خيارٌ واحدٌ آخر متاح، ألا وهو اجتياح لبنان برّياً، على أمل النجاح في تدمير إرادة حزب الله وقدرته من خلال هذا الاجتياح.
التالي: كسب المعركة البرّية