التحسّب لخديعة تمديد جديد أو انتخابات على أساس الـ«60» لإجهاض مسعى بري

أرادت «البناء» تقديم مساهمة بنّاءة في النقاش الدائر حول الأزمة الوطنية التي تعصف بلبنان، فنظّمت ندوة بالتعاون مع الشبكة الوطنية للإرسال قناة أن بي أن بدأت حلقتها الأولى أمس كورشة عمل فكرية سياسية تحت عنوان «مجلسي النواب والشيوخ من اتفاق الطائف إلى الفراغ الرئاسي فالحوار الوطني بين الإمكان والضرورة»، وخصّصت الحلقة الأولى للإطار السياسي للبحث.

عقدت الندوة برعاية رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي الوزير السابق علي قانصو ومشاركة نائب رئيس مجلس النواب السابق إيلي الفرزلي، وزير الداخلية السابق زياد بارود والأستاذ الجامعي في القانون الدستوري الدكتور وسيم منصوري.

الندوة تعانقت مع بحث مهمتها في مسار تصاعدي بدأ من كلمة الراعي الوزير قانصو، الذي قدّم صورة عن أزمة النظام السياسي ومحورها، النظام الطائفي القائم على سدّ كلّ الآفاق أمام التمثيل الصحيح، وتعقيم فرص التطوّر والتحديث للنظام السياسي، الذي يؤسّس لأزمات خانقة وحروب أهلية بصور دورية، يدفع اللبنانيون ثمنها أوراحاً وأرزاقاً وعمراناً، ليكتشفوا رقعة لهذا الثوب المهترئ ويعودوا بعد استنفاد زمنها إلى دورة جديدة من الحرب والأزمات.

تداول المشاركون أفكارهم ووضعوها فوق الطاولة، بعيداً عن لعبة السجال وتسجيل المواقف لمحاولة تقديم أجوبة على أسئلة حقيقية، تبدأ من التمييز بين الأزمة الراهنة والأزمات التي سبقت كما قال الدكتور منصوري، فللمرة الأولى يصل النظام السياسي للعقم ويعجز عن استيلاد مؤسساته كرئاسة الجمهورية ومجلس النواب، وهو ما لم يحدث بالتزامن والامتداد الذي هو عليه الآن من قبل، مروراً بالتناوب على موقع الشعور بالغبن بين الطوائف والمذاهب، وهو ما بات التناوب على توزع الصلاحيات والحصص عاجزاً عن طمأنته، فقد صار وفقاً للرئيس الفرزلي قلقاً وجودياً يعززه اضطراب إقليمي مخيف، يستحيل الخروج منه من دون اعادة تكوين منصفة للسلطة تعيد إنتاج الشراكة الوطنية، بعيداً عن ايّ خداع كالذي حملته المناصفة الشكلية منذ اتفاق الطائف، ويصير نظام المجلسين أكثر من ضرورة إصلاحية، كما التمثيل النسبي، حاجة وجودية كما قال الوزير زياد بارود، ويصير على اللبنانيين التنبّه من مكيدة أخذهم إلى تمديد جديد لمجلس النواب أو إلى انتخابات على أساس قانون الستين، قطعاً للطريق على المسار الذي يحاول رئيس مجلس النواب نبيه بري أن يفتح عبره كوّة في الجدار المسدود.

تنشر «البناء» اليوم كلمة راعي الندوة رئيس الحزب السوري القومي الإجتماعي الوزير علي قانصو، لتنشر وقائع الحلقة الأولى في عدد الغد وتبثها قناة «أن بي أن» غداً أيضاً، لتنعقد الحلقتان الثانية والثالثة الخميس المقبل والذي يليه، وتنشر وقائعهما تباعاً السبت المقبل والذي يليه.

كلمة راعي الندوة

حين فاتحني رئيس تحرير «البناء» الأستاذ ناصر قنديل بشأن هذه الندوة ورعايتي جلسة افتتاحها، وبالموضوعات التي تتناولها، وبأسماء الشخصيات المشاركة فيها، رحّبت وسعدت.

وإنّني أغتنم هذه الفرصة لأتوجّه إلى المنتديات الإعلامية والثقافية والسياسيّة، لإطلاق ورش حوار من نمط هذه الورشة حول أزمتنا الراهنة وسُبُل الخروج منها، بعد أن استحكمت هذه الأزمة وطالت، وضربت بمفاعيلها كلّ جوانب الحياة في الدولة والمجتمع.

إنّ الحوار بين وجهات نظر متباينة أو مختلفة حول أزمتنا مطلوبٌ، لأنّه يُغني الجميع، ويقرّب بين الآراء، ويفيد في عملية تشكيل رأي عامّ ضاغط على من بيدهم الحلّ والربط، علّهم يخرجون من دائرة الانتظار والمراوحة، ويتفاهمون على مخارج لهذه الأزمة الطاحنة.

أزمتنا اليوم واحدة من سلسلة أزمات عرفها لبنان، منذ الاستقلال… من أزمة 1952 إلى الـ58، والـ75، فإلى الأزمة الراهنة الممتدّة منذ العام 2005. وبمعدّل أزمة كلّ خمسة عشر عاماً تقريباً. وفي ظلّ هذه الأزمات، شهدنا حربين أهليّتين أتت الأخيرة على الأخضر واليابس. هذا التاريخ يدلّ على أنّ مصدر هذه الأزمات ومولّدها لم ينجح اللبنانيّون في إقفاله وتعطيل سمومه، فاستمرّ في ضخّ النزاعات، وهذا المولّد هو في رأينا النظام السياسي الطائفي. فالأزمة اليوم، كما الأزمات السابقة هي أزمة نظام. وهذا النظام أفرز على امتداد تاريخ لبنان طبقة سياسيّة على شاكلته، فلم تنجح، بل لم تردْ بناء دولة تُطمئن اللبنانيّين على اختلاف مكوّناتهم وتكون مرجعيّةً للمواطنين جميعاً. مرًة كان الغبن شعوراً لدى المسلمين ومرّة لدى المسيحيّين، ولكن ولا مرّة كانت المكوّنات مطمئنةً غير قلقةٍ على حاضرها ومستقبلها. وهذه الطبقة السياسية وجدت أنّ تأبيد مصالحها ومنافعها لا يكون إلا بتأبيد النظام السياسي الطائفي، فاستماتت في مواجهة كلّ محاولة إصلاحية، وفبركت قوانين انتخابيّة على النظام الأكثري تُعيد إنتاج الطبقة السياسيّة عينها، ما جعل لبنان ينتقل من أزمة إلى أخرى، ومن حرب أهليّة إلى أخرى، والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو: هل نعود إلى المسكّنات في معالجة أزمتنا الراهنة كما كانت حالنا مع الأزمات السابقة، أم يجب معالجة الأزمة من جذورها ومولّداتها الحقيقيّة؟

نحن من المطالبين بإلغاء الطائفية باعتبارها مولّد الانقسامات والنزاعات والحروب والأزمات بين اللبنانيّين، «لبنان يهلك بالطائفيّة ويحيا بالإخاء القومي»، كلام قاله زعيمنا سعاده في ثلاثينيّات القرن الماضي، والدولة المدنيّة وحدها هي دولة المواطنة، ووحدها الدولة المطمئنة للمكوّنات جميعها. لكنّ إلغاء الطائفية لا يتمّ بكبسة زرّ، فنحن لسنا واهمين، لذلك اعتبر دستور الطائف في مقدّمته «إلغاء الطائفية هدفاً وطنياً أساسيّاً يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطّة مرحليّة». وهذه الخطة المرحلية أوكل أمرَها في المادة 95 منه لهيئة وطنية طلب تشكيلها «لدراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النوّاب والوزراء، ومتابعة تنفيذ الخطة المرحليّة». والسؤال: لماذا لم تُشكَّل هذه الهيئة حتى الآن؟ الجواب معروف، وهو أنّ الطبقة السياسية بمعظم مكوّناتها لا تريد إلغاء الطائفية ضماناً لمنافعها ومكاسبها ومصالحها، ولارتهاناتها الخارجيّة.

ولقد استبشرنا خيراً، حينما أكّدت كلّ القوى السياسيّة المشاركة على طاولة الحوار التزامها تنفيذ كلّ بنود اتّفاق الطائف بما فيها البنود الإصلاحية، ومنها تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفيّة، وانتخاب مجلس نيابي وطني لا طائفي، ومجلس شيوخ تتمثّل فيه العائلات الروحية كما نصّت المادة 22 من الدستور.

الالتزام بتنفيذ هذه البنود سمعناه من كلّ القوى السياسية، ولكن حينما طرح الرئيس برّي في الجلسات الثلاثيّة الأخيرة مناقشة تصوّر القوى السياسيّة لصلاحيّات مجلس الشيوخ وطريقة انتخابه والمجلس النيابي الوطني وطريقة انتخابه وبالتلازم بين الأمرين، ذاب الثلج وبانَ المرج، فبعضهم حاول الفصل بين المسارين أيّ بين مجلس الشيوخ والمجلس النيابي الوطني، علماً أنّ الرئيس برّي شدّد على التلازم ما بينهما وفق ما نصّت المادة 22. والبعض الآخر رفض السير باقتراح الرئيس برّي بحجّة أنّه لا يجوز بحث موضوعات بهذه الأهميّة في غياب رئيس الجمهورية، علماً أنّ الرئيس برّي أكّد لهذا البعض أنّ المطلوب هو التفاهم على الخطوط العامّة لصلاحية مجلس الشيوخ وطريقة انتخابه، ولقانون انتخاب المجلس الوطنيّ، ثمّ تتولّى لجنة من النوّاب ورجال الاختصاص، يسمّي كلّ طرف على طاولة الحوار ممثّله فيها، تتولّى هذه اللجنة إعداد مسوّدة مشروع قانونَي مجلس الشيوخ وانتخاب مجلس النوّاب الوطني، أمّا إقرار القانونين كما أكّد الرئيس برّي للمعترضين فلن يحصل إلّا بعد انتخاب رئيس الجمهورية وبعد إبداء الرئيس رأيه فيهما، إلّا أنّ المعترضين بقوا على اعتراضهم، وهذه الاعتراضات قصدت إجهاض فكرة الرئيس برّي وتعطيل السير بالبنود الإصلاحيّة.

إنّ الاعتراضات على تنفيذ البنود الإصلاحيّة في دستور الطائف، تذكّرنا بالاعتراضات التي واجه بها بعض الطبقة السياسيّة، المشروع الإصلاحي المتقدّم، الذي كانت طرحته الحركة الوطنية في سبعينيات القرن الماضي، وكما حاول من اعترض على السير بالمادة 22 تثقيل شروطه حينما أقحم سلاح المقاومة في لائحة هذه الشروط اعتمد من اعترض على المشروع الإصلاحي للحركة الوطنية على تثقيل شروطه بمطالبته بالعلمنة الشاملة، التي سُمّيت آنذاك علمنة الإحراج الطائفي، وكأنّ التاريخ يُعيد نفسه بأسوأ محطاته.

نجدّد تأكيدنا على ضرورة إنهاء الشغور الرئاسي بانتخاب رئيس موثوق بخياراته وبقدرته على بناء دولة قويّة، عادلة ومطمئنّة، إلّا أننا لا نرى مستقبلاً مستقرّاً زاهراً للبنان إلّا بإصلاح نظامه السياسي، ومدخل هذا الإصلاح تنفيذ المادة 22 من الدستور، فنحن أعلنّا على طاولة الحوار وقوفنا مع الرئيس برّي في سعيه إلى تحقيق هذا الإصلاح بإقرار قانون للانتخابات النيابيّة من خارج القيد الطائفي، ويقوم على لبنان دائرة انتخابيّة واحدة، وعلى أساس النسبيّة وبالتلازم مع إنشاء مجلس شيوخ تتمثّل فيه العائلات الروحيّة، ويُنتَخب أعضاؤه وفق مشروع اللقاء الأرثوذكسي.

إنّنا ندعو كلّ القوى السياسيّة المؤمنة بالخيار الإصلاحي، كما النّخب الإعلاميّة والثقافية والنقابية وعموم اللبنانيين، إلى العمل الجادّ وبكلّ الوسائل الديمقراطيّة لتشكيل قوة ضغط على الطبقة السياسيّة لجعلها تستجيب لتطلّعات اللبنانيين إلى إصلاح حقيقي يفتح الطريق إلى مستقبل آمن لهم وللأجيال.

إنّ فرصة الإصلاح السياسي يُحدق بها خطر شديد، وضياعها هذه المرّة سيُبقي لبنان يتخبّط بأزماته، وسيُبقيه أرضاً متشقّقة مهيّأة لارتدادات زلازل المنطقة في كلّ حين.

وختم قانصو كلمته بتوجيه التحية إلى أسرة «البناء» ورئيس تحريرها على هذه المبادرة التي تندرج في هذا السياق المنشود.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى