أردوغان يغازل روسيا وعينه على أوروبا والغرب
د. هدى رزق
أثارت زيارة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الى روسيا تساؤلات كثيرة حول مصير علاقته بالناتو وبالولايات المتحدة. فالرجل تعمّد إثارة اسئلة حول تصريحاته وتودّده للرئيس الروسي بوتين، الذي استطاع خلال الزيارة ان يضع الامور في نصابها، وان يذكًر انّ هذا اللقاء يأتي بعد العقوبات التي فرضتها روسيا على تركيا.
وكان لافتاً فصل الملفات عن بعضها، فلم يرد للاقتصاد ان يتأثر بالخلافات السياسية، مع العلم انّ روسيا ترى انّ دوام العلاقات لا يعززه الا الاتفاق السياسي. وجرى تناول الملف السياسي والأمني المتعلق بسورية في إطار آلية مختلفة عن الملف الاقتصادي الحيوي بالنسبة للطرفين.
مثلت قمة سان بطرسبورغ فصلاً جديداً في العلاقة بين أنقرة وموسكو، بعد أشهر طويلة من القطيعة. كما اتت زيارة أردوغان إلى روسيا في لحظة خلاف تركيا مع الكتلة الغربية بعد الانقلاب الفاشل، الأمر الذي أثار تكهّنات حول تحالف جديد بين البلدين، لا سيما حول المسائل الإقليمية. وأعرب أردوغان عن امتنانه لمضيفه على دعمه الفوري وغير المشروط، على عكس البلدان الأوروبية، التي يرى انها لم تتعاطف مع الحكومة التركية. يحتاج أردوغان قبل كلّ شيء الى الأصدقاء بعد محاولة الإطاحة به، فصورة الامن والاستقرار اهتزت. لذلك استعان بالوجود الشعبي في الشارع، ليثبت للقاصي والداني انّ شعبه يلتف ّحوله ويدعمه. كان الدافع الاقتصادي حاضراً بقوة في هذه الزيارة، أما نتائج الاجتماع فستظهر تباعاً في الأيام المقبلة، لا سيما في ميدان التجارة والتعاون في مجال الطاقة، فكلا الجانبين كان حريصاً جداً على تطويرهما. وقد وصفت محطة الطاقة النووية الكهروذرية كاستثمار استراتيجي. وتمثلت النتائج الفورية بإزالة القيود المفروضة على المنتجات الزراعية التركية، وعلى شركات المقاولات التركية في روسيا، وإعادة الرحلات الجوية وكذلك اعتماد خطة عمل لتعزيز العلاقات.
ركز الزعيمان أيضاً إلى حدّ كبير على سورية. وكان أردوغان قد قال قبل زيارته «إنّ روسيا أساسية وفاعلة في إحلال السلام في سورية». وأكد «أنّ تركيا وروسيا ينبغي أن تتخذا الخطوات معاً لحل هذه المشكلة». واقترح إنشاء آلية جديدة بمشاركة بعض البلدان الاقليمية لحلّ الأزمة السورية. هذا التصريح ومناقشة التطورات في سورية بديا كرسالة لحلفائه الغربيين، لا سيما إلى الولايات المتحدة، بانه لا يعني بالضرورة أنّ تركيا لن تكون شريكة في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لمكافحة «داعش»، بل هو إنذار بتغيير في أولويات أنقرة، من اجل البحث عن حلول للمشكلة السورية. نتج عن الاجتماع بشأن الملف السوري اعتماد آلية يجتمع بموجبها أمنيون وسياسيون ودبلوماسيون من الطرفين، للتنسيق حول الوضع وتبادل المعلومات. اصرّت تركيا على ضرورة الفصل بين «المعارضة المعتدلة» والمدنيين «وداعش». كما تمّ الاتفاق على استئناف تركيا ضرباتها الجوية ضدّ أهداف «داعش» في سورية. وطلب المسؤولون الاتراك من روسيا القيام بعمليات مشتركة ضدّ «عدوهما المشترك»، بعدما توقفت أنقرة قسراً عن الضربات اثر إسقاط الطائرة الروسية. لم تلبث الولايات المتحدة ان رحبت بهذه الخطوة التنسيقية بين البلدين، فيما اكدت تركيا على لسان وزير خارجيتها مولود جاويش اوغلو أنها ملتزمة مع التحالف الذي ينطلق من قاعدة «انجيرليك».
ترى انقرة انّ الولايات المتحدة لم تقف الى جانبها، بالرغم من انّ الرئيس اوباما اتصل بأردوغان مستنكراً الانقلاب، ومشدّداً على الديمقراطية، لكن الحكومة التركية تريد من الولايات المتحدة تسليمها محمد فتح الله غولن. وهي ترى انّ تحالفها مع الولايات المتحدة، وتعاونها الوثيق يعتمد على كيفية ردّ واشنطن لهذا الطلب، وتبدو زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري المقرّرة لتركيا في 24 آب الحالي مهمة في هذا الصدد. وهي ستأتي قبل عشرة أيام فقط من لقاء أردوغان وأوباما في الصين، خلال مؤتمر قمة G-20 الذي يبدو أنه سيشهد حواراً مكثفاً ودبلوماسية مكوكية بين الطرفين، حتى يتمّ حلّ الامور العالقة..
اما «الناتو» فقد صرّح بانّ العلاقة مع تركيا كإحدى دول الحلف، هي علاقة ثابتة بالرغم من الحرب الكلامية، التي استعرت بين القادة الأتراك ورجال السياسة في كلّ من ألمانيا والنمسا وايطاليا والسويد وفرنسا. التصدّع في العلاقة مع الغرب الاوروبي له أسبابه الكامنة ضدّ الأسلوب الابتزازي الذي اعتمده اردوغان في مسألة اللاجئين، والذي أدّى الى هجوم الصحافة الاوروبية على حكوماتها واعتبارها رضخت لابتزاز اردوغان، الذي تتهمه أوروبا باعادة تصدير الارهاب الداعشي اليها عوضاً عن تشكيل حاجز ضدّ الإرهاب.
يعلم الغرب الاوروبي أن تركيا لن تكون دولة ديمقراطية حسب شروطه، لأنّ الناس في «الغرب» تعرف أنّ العجز الديمقراطي في تركيا لن يختفي بمجرد فشل الانقلاب، وهم انتقدوا خطوة الحكومة في إقامة «مقبرة الخونة» لمدبّري الانقلاب الفاشل. وهو موقف غير إسلامي لدولة لا ينفك رئيسها عن ذكر الله في خطبه الموجهة للجمهور التركي.
لم يثن الغربيون على حركة مناهضة الانقلاب التركي بعدما اتهم السياسيون الأتراك الغرب برسمه.
كذلك أظهرت دراسة استقصائية أجريت مؤخراً أنّ 54 في المائة من النرويجيون و81 في المائة من الالمان يرفضون عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي. ويرى كثيرون انّ اردوغان يعتقد انّ ايطاليا هي كتركيا، في ما خصّ الضغط على القضاء واعطاء «أوامر» إلى القضاء الذي يحقق في أنشطة ابنه المالية في إيطاليا، فأردوغان يعلم انه يتناقض مع شروط العضوية حين يهدّد بإعادة عقوبة الإعدام. كما يعلم الغرب انّ الديمقراطية التركية هي ديمقراطية صناديق الاقتراع… وهي لن تكون قادرة على اتباع المبادئ العالمية المتمثلة في سيادة القانون وحقوق الإنسان، وليست قادرة على الوفاء بالتزاماتها بمقتضى الاتفاقيات الدولية ومعايير الاتحاد الأوروبي.
لكن الشجار بين العواصم الأوروبية وأنقرة غير كاف لإثبات تدهور العلاقات، فألمانيا رحبت بإعادة العلاقة التركية الروسية، أما تركيا فهي ستستمرّ بمفاوضات الانضمام الى الاتحاد الاوروبي، وألمانيا لا زالت ترحب بإكمال إبرام صفقة اللاجئين بين الجانبين. تعرف تركيا انّ كلّ تناقض او توتر بين بروكسل وانقرة سيشجع «القبارصة اليونانيين» على التراجع عن محادثات إعادة توحيد الجزيرة مع «القبارصة الأتراك، عدا عن مشاكلها مع المسألة الأرمنية.