جزيرة أرواد.. مملكة فينيقية على الساحل السوري
لورا محمود
مقابل مدينة طرطوس، وعلى مسافة لا تتجاوز ثلاثة كيلومترات، تتربّع جزيرة قديمة قدمَ التاريخ، في وسط البحر. هي جزيرة سورية تتمتّع بتاريخ عريق وموقع متميّز وفريد. إنها جزيرة أرواد، أو «أرادوس»، الجزيرة الوحيدة المأهولة بالسكان منذ أيام الفينيقيين.
الموقع
تقع جزيرة أرواد أمام السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، قبالة البرّ السوري جنوب غرب مدينة طرطوس.
ورد اسم أرواد أو أرادوس في رسائل تلّ العمارنة، وفي حوليات ملوك آشور، وفي نصوص أوغاريت… وجميع هذه الكتابات تتحدّث عن أهمية أرواد التاريخية والاقتصادية والملاحية، وعن أنها من أهمّ المدن الفينيقية.
تتكون الجزيرة من توضّعات طينية حديثة تعود إلى الحقبة الجيولوجية الرابعة، تغطّي صخوراً رملية تُعرف بحجر «الرملة»، وترسم هذه الصخور عند التقائها بالبحر، شرفات وجروفاً ساحلية. وتحيط بالجزيرة مجموعة صغيرة من الجزر تسمّى «بنات أرواد».
تتميّز الجزيرة بممرّاتها وشوارعها المتعرّجة، وقلعتها الصليبية، وقلعتها الإسلامية، والبرج الأيوبي، وبقايا سورها الضخم ومساكنها المتراصّة.
تشتهر أرواد منذ القدم بصناعة السفن، التي ما زالت قائمة إلى اليوم. وكانت قديماً تملك أسطولاً بحرياً قوّياً. حارب الأرواديون ضدّ الاغريق اليونانيين، ووقعت بينهم معركة بحرية هي معركة «سالاميس».
التسمية
تسمّى «آراد» أو «آرفاد»، باللغة الفينيقية، وتعني الملجأ أو الملاذ. و«أرادوس» باليونانية. وهناك عدّة أماكن تحمل التسمية نفسها أمام الساحل الفلسطيني، وفي الخليج العربي، وقرب جزيرة كريت اليونانية، لكن الدلائل تشير إلى أنّ مؤسّسي هذه الأماكن كانوا من الفينيقيين.
يبلغ طول هذه الجزيرة بحدود 800 متر، وعرضها حوالى 500 متر، أي أنّ مساحتها تبلغ تقريباً 400 ألف متر مربّع. المسكون منها 50 في المئة. وقد وصفها العالم استرابون بأنها مدينة مهمّة تشغل مساحة من اليابسة وصخرة يلطمها البحر من كلّ جهة حتى يكاد يغمرها.
تضم أرواد في رحابها الكثير من المعالم الأثرية والأوابد التاريخية منها: البرج العربي الأيوبي، ويسمّى بالقلعة الساحلية، وهناك السور الفينيقي وهو سور حجريّ ضخم يحيط بالجزيرة من جميع جهاتها كإحاطة السوار بالمعصم، وتمّ بناؤه لحماية المدينة من خطر العواصف البحرية ولصدّ الغزوات التي كانت تواجهها.
تاريخ أرواد
لقد تعرضت أرواد للغزو مرّات عدّة خلال تاريخها الطويل، ومع ذلك حافظ السكان على أصالتهم لعشرات القرون. ولأبناء أرواد شهرة واسعة في العمل البحري وهم مفضّلون لمهارتهم وصبرهم. وقد مرّت الجزيرة بحالات مختلفة في تاريخها الطويل منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد حتى اليوم، وأجلي سكانها عنها قرابة سنة خلال الحرب العالمية الأولى وقصفها الألمان عام 1917، لتحوّلها إلى قاعدة فرنسية منذ أيلول 1915.
لقد كانت أرواد مدينة مزدهرة منذ الألف الثاني قبل الميلاد، ثم وقعت تحت نفوذ صور، إلا أنها استقلّت عنها وأخذت تنمو وتزدهر وتمتدّ لتؤسّس مستعمرات وتنشئ مدناً على الشاطئ لضرورات اقتصادية ودينية ودفاعية، وسمّيت هذه المستعمرات أيضاً «بنات أرواد». وقد توغل الأرواديون في الداخل فأقاموا معابد وقلاعاً كهيكل «بيتوخيخي»، و«سيجون»، وساهموا في تأسيس مدينة طروادة. وأشهر بنات طروادة أنترادوس وهي طرطوس الحالية وعمريت.
عندما أغارت شعوب البحر على أوغاريت، كانت أرواد أوفر حظاً، إذ نجت من الغزو، وأصبحت من أبرز المدن الساحلية إلا أنها خضعت للملك الآشوري تغلات بلاصر الأول ثم آشور ناصربال. غير أن الأرواديين استردّوا معنوياتهم واتّحدوا مع ملوك سورية الآراميين عام 854 قبل الميلاد ليحاربوا جيش شلمانصر الثالث الذي تمكّن في ما بعد من فرض الغرامات على أرواد.
في عام 539 قبل الميلاد، أصبحت أرواد جزءاً من الإمبراطورية الأخمينية الفارسية وغدت الولاية الخامسة، وسمح لها بممارسة الحكم الذاتي ودفعت بأسطولها إلى جانب الفرس في حربهم ضدّ الأثينيين في معركة «سلاميس» عام 480 قبل الميلاد.
وقد غزا الاسكندر المقدوني البلاد عام 333 قبل الميلاد. وقدّم ابن ملك أرواد الخضوع والطاعة أمام الاسكندر. واللافت أن الاسكندر لم يشأ إثارة حساسية أهل أرواد وشعورهم، ولم يدخل الجزيرة على رغم وجوده في ماراتوس عمريت القريبة منها.
كان لأرواد شأن مهمّ في النزاع بين البطالمة والسلوقيين، لذا، منحها أنطيوخوس الثاني استقلالها ليضمن مساعدة بحريتها، وتمتّعت وقتذاك بامتيازات المدينة الحرّة. واعتبر العام 259 قبل الميلاد نقطة بدء التأريخ لديها. وتدخّل الأرواديون في نزاع السلوقيين بين بعضهم حيث وقفوا إلى جانب سلوقس الثاني، واضطر أنطيوخيوس الرابع إلى إخضاعهم بعد مقاومة، ثم تحالف معهم. وأعاد أنطيوخيوس السابع إلى أرواد حرّيتها ليكسب مساعدتها، وبصورة عامة كان لأرواد نفوذ عظيم على طول سواحل سورية.
بعد ذلك، احتل الرومان سورية بقيادة القائد الروماني بومبيوس، إلا أن أرواد حافظت على استقلالها النسبيّ، وأيّدت القائد الروماني بومبيوس عند خلافه مع قيصر، واستخفّت بعملاء أنطونيوس ورفضت دفع الجزية. إلا أن المجاعة التي نتجت عن الحصار دفعتها إلى الاستسلام. واحتفظت أرواد في تلك الآونة بمؤسّساتها الهيلنستية، وكانت الوحيدة التي حافظت على حرّيتها. إلا أنها أخذت تخبو وتضعف، وبدأ نجم المدينة المقابلة أنترادوس طرطوس بالتألق لتأخذ مكانها.
لم تدخل أرواد الفتح العربي مع سورية، بل بقيت قاعدة بحرية بيزنطية إلى أن قرّر معاوية بن أبي سفيان فتحها وتم له ذلك. لكن الجزيرة أعيد استخدامها كقاعدة بحرية لأساطيل الدول الإيطالية في حقبة الغزو الافرنجي، واستقرّ فيها فرسان الهيكل فزادوا من تحصينها، وأصبحت الجزيرة المركز الرئيس ليعقوب الطرطوسي للإغارة على الساحل بين وقت وآخر. بعد ذلك، تناوب على أرواد المماليك، ثم أهملت وأتى العثمانيون وحسّنوا في قلعتها زمن السلطان سليمان القانوني، وشيّد فيها حصنان صغيران.
وفي الحرب العالمية الأولى، نزلت فيها البحرية الفرنسية وأخضعتها لفرنسا عام 1915، حيث أصبحت تمهر فيها المعاملات بخاتم حكومة أرواد، قبل أن يتم ضمّها إلى سورية بعد معاهدة «سايكس ـ بيكو»، وقد جعلت فرنسا قلعتها معتقلاً للأحرار والرجالات الوطنيين إبان فترة الاحتلال الفرنسي الذي انتهى عام 1946.
اكتشافات أثرية
كانت جزيرة أرواد مسكونة منذ زمن بعيد، لكن استمرار السكن على هذه المساحة الضيّقة لم يسمح بالعثور على دلائل هذا الماضي البعيد، لأن أرضها صخرية ومن دون طبقات، كما أن أبنيتها مكتظة تعيق أيّ عملية تنقيب، وقد وجدت شواهد على الاستيطان الإنساني على اليابسة تعود إلى العصرين الحجري الحديث النيوليتيك والمتوسط الميزوليتيك .
وقد كشفت التنقيبات في الجزيرة آثاراً معمارية ومادية وكتابات منقوشة بلغ عددها 22 نصّاً حتى عام 1983. وأوّل من استطلع هذه الآثار إرنست رينان في أثناء رحلته إلى سورية عام 1860 واقتصرت دراسته على جدران السور والمنازل ومفارق الطرق، والمخطوطات، والأدوات الجنائزية، وقواعد التماثيل، وبعض الألواح الخشبية التي تظهر امتزاج العناصر المصرية والآشورية والفارسية وانطباعها بالحسّ اليوناني، حيث تدلّ على أنّ الفنّ الإغريقي تطوّر في أرواد تطوّراً يفوق أيّ مكان آخر على الساحل السوري.
كما قامت الباحثة أونور فروست بأعمال دراسة أثرية تحت الماء نشرت نتائجها في بحث عن صخور أرواد البحرية ومراسيها القديمة الأثرية. وقام الآثاريون السوريون باستطلاعات مهمة في أرواد وتم استخراج قطعة حجرية عليها كتابة يونانية من العصر الروماني مؤلّفة من 11 سطراً نقلت إلى الفرنسية ثم ترجمت إلى العربية، كما تم كشف حجر أسود بازلتي عام 1983 إلى جانبه حجر رخاميّ نُقشت عليه خمسة سطور يونانية ويعود إلى أيام الإمبراطور تيبريوس.
ومن الجدير بالذكر، أنّ القديس بولس وصل إلى أرواد وهو في طريقه إلى روما وأعجب بتماثيلها وبشّر سكانها بالدين المسيحي.
أرواد اليوم
مناخ أرواد متوسّطي بحري أمطاره شتوية وخريفية وربيعية، متوسّطها السنوي بحدود 800 ميلليمتر. تراوح حرارتها بين 27 و7 درجات ويندر أن تتدنى إلى الصفر. ورطوبتها عالية تصل إلى أكثر من 90 في المئة في الصيف، وتحوم حول 60 في المئة شتاءً. وتتعدّد الجهات التي تهبّ منها الرياح، ولكلّ منها تسمية محلية: فـ«الملتم» ريح تهبّ من الجنوب الغربي، و«الشلوق» من الجنوب الشرقي، و«التحتاني» من الشمال، وغير ذلك من تسميات مرتبطة بالملاحة. وللأرواديين خبرة بأحوال الجو والتنبؤ بها. ويسبب الضباب الربيعي المسمى «سريدا» حجب الرؤية فتتوقف حركة المراكب.
وتنعدم المياه العذبة السطحية والينابيع في الجزيرة، فيغدو اعتماد سكانها على مياه الأمطار التي كانوا يجمعونها في حفر وخزّانات وعلى المياه العذبة المنبجسة من قاع البحر على شكل ينابيع تعرف بِاسم «الفوّارات» في منتصف المسافة تقريباً بين أرواد وطرطوس، حيث كان الماء يؤخذ منها بوساطة قمع من الرصاص شبيه بالجرس متصل بأنبوب جلدي. وتعدّ هذه «الفوّارات» أقدم ينابيع بحرية عرفها الإنسان واستعمل تقنية القمع المقلوب في استغلالها. ويشرب الأرواديون منذ عام 1953 من مياه بئر حديثة حفرت في الجزيرة، دعمت ببئر أخرى ثم ثالثة في منتصف السبعينات، إضافة إلى انتشار آبار خاصة في الدور إلى جانب برك وأحواض جمع مياه المطر. ويعد وصول مياه نبع السن على الساحل السوري إلى دور أرواد نهاية أزمة مياه الشرب للأرواديين.
سكّان أرواد من قدماء أبناء سواحل بلاد الشام، وحَفَدة الفينيقيين الذين استقبلوا الفاتحين العرب واعتنقوا الإسلام، ويعتقد أنهم في الأصل البعيد من مدينة صيدا. وقد تعرّضت أرواد للغزو والاحتلال أكثر من مرة في تاريخها الطويل، ومع ذلك حافظ السكان على بقائهم وأصالتهم منذ عشرات القرون. ويتألف السكان من أسَر صغيرة تربط بعضها روابط النسب والقرابة البعيدة عن العلاقات القبلية السائدة في معظم قرى البرّ الشامي. ويتكلم السكان اللغة العربية بلهجة ساحلية مميزة. وتعد الهجرة أهم ظاهرة ديموغرافية في الجزيرة، إذ يبلغ عدد الأرواديين خارج بلدهم أضعاف المقيمين فيها. ويعيش معظمهم في مدن الساحل السوري حيث يتوافر العمل في المهن البحرية وتوابعها في طرطوس وبانياس واللاذقية. وتعمل أعداد مهمة منهم في أنحاء متفرقة من العالم ولاسيما في الموانئ الكبرى وشركات الملاحة العالمية. ولأبناء أرواد شهرة واسعة في العمل البحري وهم مفضلون لمهارتهم وصبرهم وأمانتهم. ولقد مر إعمار أرواد بحالات مد وجزر في تاريخها الطويل منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد حتى اليوم، وأُجلي سكانها عنها قرابة عام في أثناء الحرب العالمية الأولى وقصفها الألمان عام 1917، لتحولها إلى قاعدة فرنسية منذ الأول من أيلول 1915.
تتوسط السوق الرئيسة الجزيرة حيث الحوانيت وبائعو الخضر والفواكه والمخابز الثلاثة. وهناك عدد من المطاعم والمقاهي على الأطراف الشرقية والجنوبية للجزيرة. أما المقبرة ففي الجنوب الغربي. وتنتشر المساكن على باقي أرض الجزيرة متراصة متلاصقة، وحاراتها ضيقة متعرجة لمرور المشاة فقط ولا يوجد في الجزيرة سيارات أو عربات. وأرض الحارات مرصوف أكثرها بالإسمنت وأقلها بالحجارة. ومعظم الدور مؤلف من طبقتين ومع تزايد أعداد السكان أخذ عدد الطبقات بالازدياد حتى أربع. ومادة البناء كانت الحجر الرملي فأصبحت الإسمنت المسلح، وسقوف المنازل مستوية مع انحدار بسيط. وتقسم أرواد إلى حارتين رئيستين هما «القبلية» و«الشمالية»، يفصل بينهما السوق. وهناك حارات أصغر كحارة السوق، وحارة شيخ شرف الدين، وحارة الفوق وغيرها.
أرواد جزيرة بحرية عماد حياة سكّانها صيد السمك والإسفنج والعمل البحري وتوابعه. فأهلها بحّارة وصيادون بالدرجة الأولى. ويتم الصيد بمراكب صغيرة تعرف بـ«الفلوكة» أو «اللنش» محلياً، مصنوعة من الخشب تسيّرها محرّكات. ويستخدم الصيادون الشباك والشصوص الشرك محلياً ويكون الصيد ليلاً. وأهم أنواع الأسماك «السلطان إبراهيم» و«الفريدي» و«الرملي» وهو أجودها، يليها «السردين» و«البلميد» التونة و«السرغوس». ويباع المحصول اليومي في «ساحة السمك» في طرطوس.
ويستخرج الأرواديون الإسفنج من عمق يُراوح بين 20 و50 متراً ومن أنواعه: الحقيقيّ المخزنيّ، والحقيقي الناعم، والإرسينية. وفي أرواد مشاغل وحيازات لصنع القوارب والمراكب وصيانة محرّكاتها، وتصدّر مراكبها إلى الموانئ السورية واللبنانية وإلى ليبيا والأردن أحياناً. وهناك بعض الأعمال التجارية التي يمارسها السكان في الجزيرة نفسها، أو مع البرّ السوري، لا سيما في مدينة طرطوس. وللوظيفة السياحية أهمية متزايدة بارتفاع أعداد زوّارها من البرّ السوري يوماً بعد يوم، يدفعهم إليها أنّ أرواد الجزيرة الوحيدة المأهولة على الساحل السوري كلّه. ولقد رافق ذلك قيام بعض الصناعات السياحية من الخشب والصَدف وهي آخذة بالازدهار.