بين الأخونة والعَثْمنة…
د. رائد المصري
تبدو تركيا اليوم الواقعة بين الإسلام السياسي بطابَعه الإخواني والعثمانية الجديدة المتعلِّقة بالموروث التاريخي لهذه الدولة، في أزمة لها علاقة بالهُوية والنظرة إلى الخارج والمشروع المستقبلي والعلاقة بالمنطقة.
وعليه فقد حرص حزب العدالة والتنمية بشكل دائم على إبعاد صفات كالإسلامي والعثماني عنه والظهور بمظهر الحزب الديمقراطي كأحزاب الغرب، إلا أنَّه بات واضحاً أنَّ ثمَّة تحوُّلاً كبيراً بدأ يحصل في أدبيات الحزب الإسلامي ويترجم نفسه في شخصية الطيب أردوغان. فالسنوات المئة الماضية من تاريخ تركيا لم تكن سوى فاصل في عمر تلك الدولة العثمانية، ولعلّ حفيد السلاطين لم يعد يرى أنَّ لتركيا هوية دون عثمانيتها لغة وثقافة ومَدّاً حيوياً واسعاً، بدأ نظام الحكم المحاولة في استخدامها وتطويع من عانَده بالقوة الناعمة حيناً والخشنة أحياناً كثيرة. فهل هذا التحوُّل من الإسلام السياسي نحو العثمانية الجديدة يمكن أن نُعِدّه تحوُّلاً مدروساً؟ وما هي أهدافه الحقيقية في إطار تسارع الأحداث في المنطقة؟
فنحن هنا نتحدَّث عن عملية لها علاقة وارتباط بتغيير الوعي بالهوية والحضارة والثقافة، وكذلك بنمط التفكير والتعليم وبما يدلُّ على إنهاء موروث أتاتورك، خطوات تبدو على طريق إعادة الخلافة الإسلامية بهوية عثمانية جديدة، وإن حاول البعض وضعها في إطار سياسي…
ومن دون التفاؤل والتهليل للموقف التركي الجديد من أزمات بلداننا وسورية بالتحديد، لا بدَّ من الدراسة الواقعية والموضوعية التي أملتها الظروف القاهرة، بحيث بدأنا نقرأ المراحل التدريجية لمواقف الرئيس أردوغان من كلِّ الصراعات الإقليمية والدولية. وهنا أخصُّ بالذكر لقاء المصالحة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والذي أُنجز ملفه بالكامل، كذلك ردود الفعل والانتظار لما سيصدر حيال الموقف من سورية ومن الصراع فيها.
في مجمل القول إنّ مشروع الإخوان المسلمين الذي كان يهدف الى توسيع رقعته الجغرافية ومنطلقاته الإيديولوجية والذي شكَّلت تركيا العدالة والتنمية إحدى آخر قلاعها وحصونها، بدأت بالانحسار والتقوقع. ونحن هنا نتحدَّث عن مشروع له أدواته وآلياته، وذلك بفعل التغيُّر والتبدُّل الكبيرين في معطيات التقسيم الدولي الجديد للعمل، وإعادة فكّ وتركيب النظام السياسي الدولي والإقليمي من دون أن يكون لمنظّري هذا الإسلام السياسي أية رؤية صحّية تستطيع أن تستشفّ حقيقة هذا التبدّل والتغيير وفق أنماط الإنتاج الجديدة، لا بل هي عاجزة عن تقديم رؤية سياسية ضمن مشروع سياسي، بعيداً عن استخدام الإرهاب والقوى التكفيرية الظلامية، ولهذا تفكَّكت منظومتها قبل أن يبدأ عملها.
الانغماس الشعبي التركي في الآليات الأتاتوركية ذات النمط الغربي ومحاكاته منذ مئة عام تقريباً، لم ينفع القوى الاجتماعية وطبقاتها بوضعها على مستوى النّدّية مع هذا الغرب، فظلَّت عقدة النقص الاجتماعية والسياسية تلاحق منظومة الحكم التركي، كما بقيت الموروثات العثمانية من مجازر وارتكابات ووحشية اقترفها السلاطين تؤرق مخادعهم إلى يومنا هذا.
التطور التركي في الموقف اليوم بعد زيارة أردوغان روسيا، والذي بدأ يتجلى رويداً وبطيئاً وتتضح صورته، هو تعبير جدي وحقيقي عن أولى محاولات تثبيت القواعد الدولية والإقليمية بالشكل الذي يجب أن تأخذها كما يجب وليس كما نريد. فالخروج البريطاني من الاتحاد الاوروبي والتفات بقية دول الاتحاد لمنع تفجير خروج دول أخرى غير بريطانيا، عوامل لم تعدْ مغرية للأتراك حتى ولو لم تفارقهم بعد عقدة النقص الذاتية تجاه الغرب. كذلك الانكفاء إن لم نقل العجز في السياسات الأميركية تجاه قضايا المنطقة والتأثير فيها وهم على أبواب انتخابات رئاسية أيضاً، هي مفاصل تركت مساحة لتقاطعات إقليمية ودولية استطاع كل من الروسي والتركي الاستفادة منها والبناء عليها وبدء وضع الأسس الأولى للنظام الدولي والإقليمي بصورة واقعية أكثر مما جرى قبل خمس سنوات، على الأقل بدأنا نرى ضبطاً لإيقاع في التوازنات الدولية في مجلس الأمن وغيره بما بات يُنبئ بوجود قوىً تتحسَّس المسؤولية وقادرة على اتخاذ المبادرات حتى لو لم يكتب لها النجاح.
نحن لا نعوِّل كثيراً لا بل مطلقاً على أيّ مشروع إخواني يمكن أن يحافظ أو يثبِّت كيانات الدولة الوطنية العربية، لكن الإدراك التركي ولو متأخراً بإعادة الهزات الارتدادية الى داخله وتلقي الصدمات الخارجية بفعل الفشل والتعويل والسمسرة والتوظيف من قبل الحلفاء الأميركيين والأوروبيين خصوصاً بعد محاولة الانقلاب الفاشل شكَّل صدمة في الوعي لدى النُّخب الحاكمة التركية، لتتعزَّز القناعة بأنَّ روسيا وإيران ومحورهما هم من يثبِّت ويعزِّز شرعيات الحكم في العالم وعبر المجالس الأممية، وليس التحالف مع الأميركي والغربي، حتى لو كان تاريخياً، لأنَّ المصلحة الرأسمالية التجارية الاستعمارية لا بدّ أن تغيِّر ثوبها وجلدها متى أصابتها النكسات وهو ما يعيشه الغرب من أزمات بنيوية ينتظر إعادة فك وتركيب بازل النظام الدولي والإقليمي ليقيِّم على أساسه التوازنات…
أدركت تركيا متأخرة ارتدادات ما يجري حولها وفي داخلها، فقامت بخطوات منها ما هو مقبول ومنها ما هو مرفوض. وهذا هو حال السياسة وعالم السياسة، لكن هل تلجأ أو هل تدرك السعودية الهزات الارتدادية التي تسير نحوها كجلمود صخر حطَّه السيل من عُلٍ؟