عبقرية «السيد» في علم الحرب
ناصر قنديل
– لا يحتاج الأمين العام لحزب الله قائد المقاومة السيد حسن نصرالله لبذل جهد من أجل توليد الأفكار والمعادلات، فقد تلاقى الصدق في خياراته مع الخبرة المتراكمة لتجاربه في إدارة الحروب لترتسم المعادلات تدفقاً، ربما يكتشف هو لاحقاً أن مفعولها يتخطى ما كان يستهدف قوله بشرح شفاف لجمهور المقاومة ومحبيها لمعادلات الحرب التي تخوضها هذه المقاومة، أي حرب، وكل حرب، فهو يعلم أنه بذاته آلة حرب نفسية، وليست الحرب النفسية واحدة من مهاراته وحسب، إنه يتنفس حرباً نفسية، ويتدفق كما الشجرة الباسقة التي تدعوك إلى فيئها في ذروة الحر، لا تحاج إلى مجهود تكتيل أغصانها وتجميع مقدراتها لتمنحك ظلها، فهو وراف وعليل، بذاته ولذاته، كما النهر الذي يدعوك إلى السباحة في مائه، هكذا روى السيد حكاية بيت العنكبوت، التي صارت اختزالاً لكل معايير الحرب النفسية، وهي ليست مجرد ذكاء اللغة الأبلغ وحسب، ولا انتقاء المعادلات الأدق وحسب، بل هي التوصيف العلمي من جهة، والرسالة التي لولا الصراع الدامي والقاسي والضاري الذي خاضته المقاومة طوال سنوات بصبر عظيم ومثابرة لا تهون وعزم لا يلين، لما كان للمعادلة من مكان، ولا للكلمات من أبعاد.
– الحرب النفسية التي جاءت في معادلة ما بعد حيفا وما بعد ما بعد حيفا، كانت كذلك، توصيفاً حربياً لمراحل تصاعدية رسمها السيد كمعادلة حرب، ورسالة من وراء خنادق القتال، ليس فيها ترف جنرالات الحرب النفسية من وراء أجهزة الكمبيوتر العملاقة وورش البحث والتفكير لتوليد المفردات البلاغية، وقياسها واختبارها. هي معادلة صادقة لتحديد مراحل الحرب، ومعادلة لرسالة حازمة لردع رهانات العدو في الحرب، ومعادلة لتفتيت تماسك جمهور الكيان في ظل الحرب، لكنها في آن معادلة الحرب النفسية التي تزاوجت مع كل المعادلات الميدانية لتفرض نهاية الحرب، وتعود لتجدد بنتائجها صدقية معادلة بيت العنكبوت.
– في خطابه الأخير وصف السيد مفهوماً عميقاً لاستراتيجية المقاومة في خوض حروبها. فهي تكتفي برسم هدف متواضع في ظاهره، اسمه إفشال أهداف العدوان أو الإرهاب أو الاحتلال، لكن مع إدراك بحس تاريخي عميق أن من تواجههم المقاومة بغض النظر عن تغيّر التسميات، هم نخبة منتقاة لهذه اللحظة لتخديم مشروع أميركا الإمبراطوري، لفرض الهيمنة، وسيكون كافياً في سياق السعي لإفشال أهداف العدوان أو الإرهاب أو الاحتلال، إلحاق الهزيمة بتلك النخبة، سواء كانت في حرب تموز، نخبة جيش الاحتلال، أو في حرب سوريا نخبة تنظيم القاعدة، وإلحاق الهزيمة، بدوره له مفهوم هو ضرب العقيدة القتالية للخصم في صميمها. فيكفي أن يكتشف جيش الاحتلال، أن الحرب تخاض على عمق الجغرافيا التي يحتمي بها واعتاد وفقاً لعقيدته القتالية أنها آمنة ومستقرة، وتخاض الحروب خارجها، ويكفي أن يكتشف أن عليه القتال وجبهته الداخلية تحت ضغط متواصل، وقد اعتاد أن تكون داعمة لحروبه بلا ضغوط، حتى تنفجر العقيدة القتالية من داخلها، وتطرح بإلحاح الحاجة لوقف الحرب، والتسليم بعدم تحقيق الأهداف، وهنا تبدأ مرحلة جديدة كلياً. فالمشروع الذي يُصاب هو مشروع جرى بناؤه على قياس يؤهله ليحكم العالم، ولهذا الفشل نتائج وتداعيات، تعيد رسم خريطة دولية إقليمية جديدة، وتعيد إنتاج موازين قوى أبعد مدى من ساحات الحرب، وتفاعلات في الهياكل والبنى السياسية في دول مركز الحرب، وهي عموماً دول الغرب، وفي مراكز صناعة الرأي العام فيها، وحركة تشكيلات الرأي العام واصطفافاته. فتصير معادلة السيد للحرب، هي الصبر، والصمود والمثابرة وتحمل التضحيات، والثبات عند الخيارات، كما معادلة، سنكون حيث يجب أن نكون، وكما وعدتكم بالنصر دائماً أعدكم بالنصر مجدداً، ويصير هذا كافياً، لتتهالك بيوت العنكبوت التي تقف على الخندق المقابل للمقاومة، وليصير النصر حليفها بتداعيات تعيد تشكيل وصناعة مشهد دولي وإقليمي جديدين، لمساحة تبدو المقاومة أصغر حجماً من أن تؤثر في تشكيلها، أو أن تصير اللاعب الحاسم فيها.
– قدّم السيد في خطابه الأخير وجبة دسمة لمعادلات حروب المقاومة وانتصاراتها، لكنه واصل حربه الميداينة والنفسية، بالتدفق ذاته، الذي يطلق معادلات جديدة يفرضها سياق الحرب وقواعد المقاومة لخوضها، فهو يصل في المواجهة مع النصرة وداعش إلى لحظة فاصلة، تستدعي التخاطب المباشر مع كمّ الحقائق المتراكمة، عنوانها إلى أين تأخذون بعضكم بعضاً، غير الهلاك، لقد استعملكم مشغلوكم واستنفدوكم، وجاء وقت الحصاد، وهم يفاوضون لتلزيم من يقول عنكم إن رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، فهل أنتم ماضون في اجترار الغباء وقد صار انتحاراً؟ ويرسل رسالته التي فاجأت وبدأت تداعياتها في النقاشات التي فتح بابها، مع تموضع تركي تفادى السيد الإشارة إليه، بمثل ما ترك لمن يخاطبهم أن يفهموا معنى تفادية لذكر تركيا بالاسم في خطابه.
– عبقرية صناعة الحرب، وقيادتها، تبدأ بالأخلاق عند السيد، ومحورها الصدق، وتنهي بتطابق الأقوال والأفعال وعنوانها المصداقية.