فايا يونان… عندما يكرّر الزمان الكبارَ والعمالقة!
حاورها: أحمد طيّ
عندما تليق المسارح الكبرى، والصروح العريقة، بأصوات من غير هذا الزمان، فاعلموا أنّ الحديث يحوم حول حالةٍ استثنائيةٍ، لا يفقه أسرارها أو يفكّ طلاسمها، سوى الذوّاقين المدركين الفوارق الشاسعة بين الغناء الأصيل والأداء الهابط.
وعندما يرتبط الغناء بالقضية، بالوطن، بالإنسان، بالحبّ الجميل اللامبتذل، فإنه يخرج عن كونه فنّاً يستقطب معجبين، ليصبح قوتاً يومياً لكلّ من يؤمن بالقضية والوطن والإنسان وجميل الحبّ. فيصير المغني ها هنا، رسولاً وملهماً أكثر بكثير من كونه عنصر ترفيه… وإغراء.
لم تكن تحتاج فايا يونان إلى أكثر من فرصة واحدة لتحتلّ قلوب آلاف المحبّين والمعجبين والذوّاقة. لم تكن تحتاج أبداً لأيّ برنامج هواة، من تلك البرامج التي جلّ عملها وأهدافها، تفريخ الفنانين والفنانات النشاز، وكسب ملايين الدولارات من الإعلانات، وذلك كلّه على حساب السمع لدينا، وعلى حساب رسالتنا الحضارية السامية.
صوت فايا يونان القويّ النقيّ كان كافياً لها إضافةً إلى حضورها الطاغي وإيمانها الراسخ وانتمائها المتّقد، كي تصبح نجمةً لألاءة. لم تكن بحاجة إلّا لفرصة واحدة… وهي ذاتها خلقتها.
من السويد، البلد الجليديّ البارد حيث تقيم فايا وأسرتها اغتراباً، ومن أحد شوارع السويد تحديداً، كانت الانطلاقة عبر فيديو نشرته الصبيّة السورية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تغنّي فيه للوطن والإنسان.
سرعان ما انتشر الفيديو، وسرعان ما تحدّث الإعلام عن تلك الشيماء السورية التي تغنّي أغنيات راقية، بصوتٍ راقٍ، وحضور مميّز.
ومن لبنان، تابعت فايا مسيرة انطلاقتها، لتغنّي بعدئذٍ في كبريات الدور الثقافية والصروح العريقة، من دار الأوبرا في دمشق الحضارة المتأصلة والمستمرّة، إلى قصر الأونيسكو في بيروت أمّ الشرائع، ومن مسرح الأوديون والمدرج الروماني في الأردن، إلى دار الأوبرا في بنت النيل القاهرة، ومنارة المتوسّط الاسكندرية. ومع كلّ حفلة وخطوة، يزداد اليقين أنّ هذا الزمان ـ نعم ـ يكرّر الكبار أمثال فيروز ووديع الصافي وأمّ كلثوم وسيّد درويش، ليخلّدهم ويخلّد معهم الفنّ الجميل.
«البناء» اليوم، تستقبل الفنانة الشابة عمراً، العملاقة غناءً، فايا يونان، في حوارٍ يتناول ما فات من حفلات ونجاحات، إلى ما سيأتي من أعمال.
قد يواجه كثيرون من الفنانين، صعوبات في شق طريقهم نحو النجومية، ونستثني هنا كلّ مَن تعرّف إلى متموّلٍ أوجد له ملعقةً من ذهب، فاشترى النجومية شراءً. لكن فايا يونان، بُعيد انطلاقتها، وجدت نفسها نجمةً بفعل صوتها وحضورها وتمسّكها بانتمائها. وإذا كان كثيرون من الفنانين الجدد قد غنّوا في مطاعم ومقاهٍ و… «حفلات خاصّة»، فإنّ فايا يونان النابضة إبداعاً، وجدت نفسها في الأمكنة التي تليق بصوتها. فغنّت بدايةً في دار الأوبرا في دمشق، لتنطلق بعدئذٍ إلى سلسلة من الحفلات الكبيرة الناجحة.
حفلات نوعيّة
عن هذه الحفلات والنجاحات تقول فايا: كانت المشاعر تختلف من صرح إلى آخر، وأيضاً الحماسة، والخوف. ففي كلّ مرّة كنت أعتلي المسرح، كان ذلك الخوف النابع من المسؤولية التي أتحمّلها، يجتاحني.
وهنا لا بدّ من الإضاءة على مسألة مهمّة لاحظتها في حفلاتي. وهي أنّ العالم الافتراضي عندما ينتقل إلى الواقع، يجعلك تؤمن بأن ما تقوم به يصل إلى الناس. ففي حفلاتي كلّها صادفت شباباً وصبايا أطلعوني على أنّهم من متابعي صفحتي على «فايسبوك»، وأنّهم أصدقاء لي، أو يعلّقون على ما أكتب أو أنشر. لذلك، كنت أرى هذا الكمّ من الحبّ المتقد في عيونهم، ما يزيد من مسؤوليتي حيال ما أقدّمه لهم.
في دمشق كانت الانطلاقة الرسمية لي، وأصررت على أن تكون هذه الانطلاقة من الشام. هناك شعرت بأنني أخذت المباركة من أهلي، من سورية التي تسكنني دائماً، لا سيما أن الحفلة كانت في دار الأوبرا، هذه الدار التي استضافت عظماء كثيرين على مدى عقود.
تفاعل الجمهور معي كان رائعاً، كنت أرى الحبّ في أعينهم، الأمل، التفاؤل، في زمنٍ تُشنّ على سورية حربٌ مقيتة ترمي إلى إطفاء جذوة الأمل في هذا الشعب الذي ما زال يقطن دمشق منذ آلاف السنين.
في بلدي الثاني لبنان، اخترت أن تكون الحفلة في قصر الأونيسكو في بيروت، وأيضاً وجدت الحماسة الرائعة من قبل الجمهور.
في الأردن… آه من الأردن، هناك تهادت إليّ رائحة فلسطين الحبيبة. كلّي إيمان أنني سأغنّي يوماً ما في فلسطين.
هناك، في الأردن، أيضاً كان الجمهور رائعاً وكثيفاً، وتفاعل بقوّة مع ما غنّيت. حتّى أنّ الجمهور عندما هممتُ لأنشد «موطني»، أنشده عنّي كاملاً، فشعرت بسحر خاص، خصوصاً أن الحفلَ كان في المدرج الرومانيّ الأثريّ. كان مشهداً راقياً يدلّ على أنّ الشعب الأردنيّ شعب راقٍ ووطنيّ.
وفي مصر، فوجئت بأعداد الناس الذين حضروا، إذ فاق العدد توقّعاتي، وشعرت بالعظمة من نواحٍ عدّة. إذ إنّ النجاح في مصر يعني لي الكثير، أنا القادمة من المشرق، والتي أفتخر بانتمائي لسورية وتراثها وحضارتها. فعندما أنجح في مصر، فإنّ هذا يعني الكثير بالنسبة إليّ.
حلب… ولا حدود للحلم!
فايا التي يسري الإبداع في شرايينها والتي يليق لها التحليق في فضاء أحلامها، تصرّح بأنّ حلمها غير محدود. وهي وإن كانت تطمح إلى الغناء في مهرجانات كبرى كبعلبك وجرش وبصرى وقرطاج، إلّا أنّها تتمنّى اليوم أن تغنّي في حلب، المدينة الجريحة التي يحتلّها الإرهابيون القادمون من كل حدب وصوب. ومثلما تؤمن أنّ حلب ستُحرّر من هذا الإرهاب، فإنّ فايا مؤمنة أنّها ستغنّي هناك، في المدينة التي قال والدها عنها: «مش أي حدا بيجي يعمل حفلة بحلب. حلب كانت تعلّم الأصول الموسيقية وأصول الغناء».
وعن المسرح والسينما، تقول فايا أنّهما ليسا ـ على الأقل في هذه المرحلة ـ ضمن الأهداف القريبة. إذ إنّها تؤمن أنّ المشوار ما زال أمامها طويلاً.
فايا والتراث
مَن يشاهد صور الجمهور متفاعلاً مع ما تغنّيه فايا يونان، يطمئنّ قلبه لزمنٍ ما زال يشهد شباباً يستسيغون الأغاني التراثية والأغاني القديمة، في وقتٍ يجتاح الرخيص من الكلام واللحن المشهد الثقافيّ الفنيّ العربيّ. وعن هذا الأمر تقول فايا: من واجبنا، لا بل من وفائنا لانتمائنا أن نحافظ على تراثنا، وأن نحييه. فيروز وغيرها من الكبار غنّوا أغنيات قديمة جدّاً بقصد الحفاظ عليها وإحيائها. لذلك، فإنّ هذه الأغاني تعني لي الكثير، وسأبقى أغنّيها وأحييها حتّى لو صدر لي أكثر من ألبوم. وأشعر أنّ المسؤولية الأكبر لا تكمن فقط في إحياء التراث، إنّما في صنع الموسيقى بحدّ ذاتها.
جيل مظلوم
تدافع فايا كثيراً وبشراسة عن أبناء جيلها وبناته، وترفض رفضاً تاماً أن يوصم هذا الجيل بتهمة أنّه هو الذي جعل الفنّ ينحدر، وأنّه ينطبق عليه القول المصري «الجمهور عاوز كده». وتقول: أنا أعرف من محيطي الفنيّ، أنّ هذا الجيل فيه من الوعي ما يكفي ليفرّق بين الفنّ الجميل والفنّ الهابط. وأعرف من خلال تفاعل الجمهور معي في حفلاتي أنّ هذا الجيل ذوّاق، على عكس ما يُقال عنه. إلا أنّ الإعلام التاجر وشركات الإنتاج التي همّها جمع المال، السبب الحقيقي وراء هذا الانحدار في الفنّ والثقافة.
«بيناتنا في بحر»!
فايا اليوم منهمكة ومديرها الفنّي حسام عبد الخالق، بالتحضير لألبومها الكامل المتكامل الأول. وعلمت «البناء» أنّ هذا الألبوم بما يحتويه من أغانٍ سيشكّل محطّة هامّة جدّاً في حياة فايا الفنيّة. وسيشهد محبّوها أعمالاً ستكون لامعةً لمجرّد بثّها.
عن ألبومها الأول تقول فايا: عنوانه «بيناتنا في بحر»، ويتضمّن ثماني أغنيات تتحدث عن الحبّ والوطن والانتماء والثورة. وقد تعاونت في هذا الألبوم مع عددٍ من الكتّاب والملحّنين المعروفين والمغمورين، والمقيمين في سورية، إضافةً إلى عددٍ من الملحّنين اللبنانيين. وتعمّدت أن يكون التعاون مع فنانين سوريين مقيمين في سورية ولم يهجروها ولم يتركوها في هذه الفترة الأليمة، لأسباب عدّة أهمّها أنّهم يستحقّون التعاون معهم، وأنّهم جديرون بأن تُسلّط عليهم الأضواء، وأنّهم هم الوحيدون الذين يعرفون كيف يترجمون المشاعر إلى كلام وأنغام. الألبوم اليوم في طور تسجيل الأغاني، وقريباً يكون الإطلاق، والأغنيات التي يتضمّنها تشكّل مقاربة سلسة، عميقة، وتصنّف ضمن السهل الممتنع، ضمن موسيقى راقية تليق بالكلمات، وذلك من دون فذلكات، فيستسيغها المتلقّي بكلّ شغف.
رسائل
لا تنكر فايا جميل أيّ أحدٍ ساندها في انطلاقتها ومسيرتها. ونحن ها هنا نتذكّر شقيقتها الزميلة الإعلامية ريحان. تقول لها فايا: هي سندي وأنا سندها. بدأنا سويّاً، إلا أنها اختارت طريقها الذي أتمنّى لها كل النجاح فيه. ريحان هي توأم روحي، وساندتني كثيراً. وكثيراً ما أغتبط عندما أُسأَل عنها. ولها أقول: أحبّك.
ولمدير الفنون، حسام عبد الخالق، تقول فايا: هو العقل المدبّر، هو النشيط الذي لا يهدأ، والذي يناقشني دائماً في التفاصيل كافة. لا شكّ في أنّ النجاح في أيّ عمل منوط بالعقل المدبّر الذي يديره. وحسام هو من خيرة الذين يعرفون كيف يديرون الأعمال الفنّية، كونه دارساً هذا الاختصاص، ولم يلجه من باب الحشرية أو عمل من لا عمل له. لولا وجود حسام، لما كنت غنّيت بهذا الشغف، إذ إنني كنت سأتلهّى بأمور كثيرة.
وللكبير دريد لحّام، الذي تكنّ له كل احترام وحبّ، تقول فايا: دريد لحّام هو أيقونة سورية، وهو الأب والقدوة والمثال الأعلى، وهو الذي قدّم أعمالاً عظيمة تشاهدها الأجيال مهما تعاقبت. له منّي كلّ التحيّات وأعطرها.
ولوالديها، تقول فايا كلمةً واحدة، أردفتها بشرح مبسّط. تقول لهم: «شكراً»، شكراً لأنكما أوجدتماني على هذه الأرض، ولأنّكما بذلتما كلّ ما في وسعكما لأصل إلى ما أنا عليه، وشكراً لأنكما زرعتما في جوّانيتي هذا الانتماء الراسخ وحبّ الأرض.