مَن يعيد السعودية إلى المربّع الأول؟
روزانا رمَّال
ليس وارداً التعاطي بعد اليوم مع المملكة العربية السعودية «عربياً» بالمنظار نفسه الذي كان في عهد الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز وقبله الملك الراحل فهد بن عبد العزيز، حيث حظيت المملكة بريادة المشهد العربي وقيادة مبادراته وحماية مقدّراته ومقدساته معنوياً وسياسياً ورسمياً في زمن تمثل ثقلها في الجامعة العربية حيناً وفي تحالفاتها الاستراتيجية حيناً آخر، فكان الاعتدال سمة حرصت على التمسك بها «ظاهراً» في تعاطيها مع الملفات خصوصاً الحساسة منها.
في تلك المرحلة كانت للرياض القدرة على رسم التوازن السياسي لمنطقة الخليج وبلاد الشام معاً، فهي التي أرّخت الاتفاق النهائي بين اللبنانيين المتقاتلين لمدة 15 سنة بجمعهم تحت سقف «دستور الطائف»، وهي التي أرّخت فيه تنسيقاً مع سورية شكل توازناً ومنتجاً منذ عهد الراحل الرئيس السوري حافظ الأسد وصولاً للرئيس بشار الأسد قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
الرياض ايضاً كانت ضمانة للفلسطينيين سياسياً، كما كانت تشي للمهتمّين في إدارة العملية السياسية والإنمائية ولها محاولات «جمع» هامة يذكر منها مبادرة مصالحة الملك عبدالله للقوى الفلسطينية على أرضها «فتح حماس» في ما عرف بإعلان مكة، قبل أن يتم نسف المسعى وتعلن حماس ولاءها للرئيس التركي رجب طيب أردوغان دعماً ومشروعاً.
ومع تفكك الإطار الجامع لدول الجامعة العربية بغياب سورية واعتراض واعتكاف آخرين بما بات لأول مرة نسفاً للتوافق العربي في مختلف القضايا، فقدت السعودية قدرتها على السيطرة على دول مجلس التعاون الخليجي وباتت تجد صعوبة بالحفاظ على القبضة الحديدية التي تحكم دوله، فاليوم قطر تنضوي ضمن سياسات تركيا لعام 2011 وتسلك خطاً سياسياً وإعلامياً مغايراً كلفها مقاطعة أبرز دول مجلس التعاون لها وسحب سفرائهم منها، مثل الكويت والإمارات والبحرين قبل عودة المياه الى مجاريها «ظاهرياً»، وها هي الإمارات العربية المتحدة تتكبّد خسائر جمة في حرب السعودية على اليمن، فتنسحب على وقع الإحراج الداخلي الذي تسبّبه العدد الكبير من الضباط الإماراتيين والعناصر الذين سقطوا ضحية الفكر السعودي والرؤية تجاه الأزمة اليمنية. وهنا بدأ الضيق يلوح في أفق سياسات الرياض بين رغبة بالولاء لها وأخرى بإنقاذ بلادهم من مغبة ايّ اهتزاز يعرّض حكمهم للخطر في أنظمة ركيكة غير قادرة على خوض حروب طويلة الأمد لا أمنياً ولا اقتصادياً دون تبرير مقنع وسط مخاطر اندلاع ثورات خليجية أشارت اليها ثورة البحرين وشرقي السعودية واليمن طبعاً.
ليس وارداً بالنسبة للبنان العودة إلى الوراء بما من شأنه التعاطي مع المملكة من منطلق المرجعية التي تكرّست منذ ما بعد اتفاق الطائف. فالمملكة التي ابتعدت عن الشأن اللبناني تركت فراغاً كبيراً ضمن المرجعيات السنية الكبرى، فبات الرئيس سعد الحريري ومعه تياره الحلقة الأضعف بالمشهد بعدما كان أقواها، فظهرت أسماء وقوى سنية بين تياره وخارجه ممّن انشق عن رؤية الحريري عملياً قادرة على تقديم نفسها كحيثية سياسية قادرة على الحضور ومواجهة الحريري عند أيّ نزال. هكذا تعاطى وزير العدل المستقيل أشرف ريفي معه على الرغم من عدم تسجيله عضواً نافذاً في تيار المستقبل إلا أنه مؤيد وفيّ للحريري الوالد حسبما يعيد ويفيد دائماً.
لا تبدو المملكة العربية السعودية قادرة على حسم موقفها في لبنان أو تحسين وضع فريقها وتقديم المساعدة له للوصول الى السلطة، لأنها فقدت الشريك القادر على إحداث هذا التوزان بغياب سورية ومعادلة «سين سين»، فبات الاعتماد على صيغة الغالب والمغلوب جلّ ما تطمح له القيادة الجديدة للملك سلمان، وهو ما لا يمكن اعتباره أمراً سهلاً أو ممكناً بظلّ تغلغل روسيا بالمنطقة ورفع أسهم انتصار حلفائها الذين يقاتلون المشروع السعودي بكلّ قوة لهم في سورية واليمن والعراق ولبنان أيضاً.
أمّا أخيراً كيف يمكن إعادة المملكة العربية السعودية مرجعية سنية إقليمية بعد الصعود التركي المفاجئ والاستدارة التي باتت ملامحها أوضح تجاه الموقف من روسيا وسورية وايران ومكافحة الإرهاب بما يكرّس تركيا حليفاً للمحور المتقدّم ميدانياً، وفق وثائق الاستخبارات الأميركية التي تفيد أنّ وضع الجيش السوري وحلفائه ميدانياً هو الأفضل منذ عام 2015.
تقلص واشنطن بشدة من مستشاريها في الرياض المختصين بإدارة شؤون وشجون الحرب السعودية على اليمن، فتكشف معها واشنطن أنّ الحرب أميركية الهوية ما يعني توريط الرياض والانسحاب بهذا الشكل الذي بات مأزقاً أكبر للمملكة بغياب الدعم الأميركي المطلق. وهنا يستحضر ايضاً اهمّ التحوّلات في وضعية السعودية بعد تمرير الاتفاق النووي الايراني مع الغرب بشكله السلس وتكريسه الانفتاح والزيارات الغربية على إيران ما يجعلها القوة الأكبر خليجياً علمياً وعملياً وما يعنيه هذا من كونه سياسياً ايضاً.
تفقد الرياض عناصرها القوية في وقت دقيق جداً يجعل من السؤال عن إمكانية استسلامها لكلّ هذه الوقائع سؤالاً بارزاً يأخذ هو الآخر نحو البحث عن بدائل ربع الساعة الأخيرة، عملاً باستحالة تقبّل الإدارة الحالية أيّ فكرة للاستسلام، فهل تكون «إسرائيل» بعد المجاهرة بالعلاقة معها هذه المرة المنقذ وتدخل على خط الأزمات بشكل فجائي، كما يبدو في التصعيد بغزة؟ أم تكون هيلاري كلينتون المرشحة الأميركية الأوفر حظاً المموَّلة حملتها سعودياً الضالة المنشودة؟
هل تنجح الرياض في مساعي العودة الى الوراء…؟