عبد السلام المسدي يفجّر في كتابه الجديد أسئلة «الهويّة العربيّة والأمن اللغويّ»

يقدم الناقد وعالم اللسانيات التونسي الدكتور عبدالسلام المسدي في كتابه الجديد «الهوية العربية والأمن اللغوي» خلاصة سنوات طويلة من البحث والنضال دفاعًا عن اللغة العربية، إذ يستأنف في الفصل الأول من الكتاب الأسئلة مثلما انتهى إليها في كتابه «العرب والانتحار اللغوي» الصادر عام 2011. ويبرر المسدي العودة إلى هذه الأسئلة بما جد من حوادث لم تكن متوقعة فـ»استئناف الأسئلة هو أحد أسس النضال الفكري المتجدد». ويتساءل الكاتب: «ألا نكون قد أسأنا طرح سؤال اللغة؟» ويشير إلى أن البحث في الشأن اللغوي دأب على الاهتمام بالخطاب الطاعن في صلاح العربية موحياً أن زمنها ولى، لينتج خطاب مرافعة يقوم أساساً على تفنيد هذه المزاعم وتفكيك آليات المناورة الثقافية.

لكن المسدي يرى أن المشهد العربي العام يحملنا على الاقتناع بأن وعياً لغوياً جديداً ينبثق وتتسارع تجلياته، وهو تماماً موضوع الكتاب الذي يعمل فيه باحثه على التشخيص المعرفي واستقراء نشأة الوعي اللغوي الجديد بمفاصله الزمنية ومضامينه الدلالية، واستشفاف ما قد ينتهي إليه من مآلات. لذا يرى أنه يتصدى لخطاب المنافحة موضوعاً للاستقراء والتشريح بدلاً من اتخاذ خطاب المناكفة.

يضع الكاتب منذ البداية علامات الافتراق بين ما يطرحه في هذا الكتاب والدارج طرحه في شأن القضية اللغوية، فيشير أولاً إلى أنه يحاول عدم الوقوع فريسة ثلاثية الخطاب اللغوي العربي بين الخطاب العاطفي والخطاب الأيديولوجي والخطاب الغيبي الإيماني، بل يتبنى خطاباً مغايراً يستجيب لشروط الموضوعية العلمية، ويتواءم مع متطلبات التشخيص العقلاني من دون أن ينخرط في أعراض الاستلاب الثقافي أو يجرَّ إعوار الإنبات الحضاري.

يجمع الدكتور المسدّي في هذا الكتاب ـ الصادر لدى «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» في 443 صفحة على اثنين وعشرين فصلاً وخاتمة ـ بين توثيق عدد كبير من المبادرات والمشاريع التي أطلقت في مختلف الأقطار العربية، وتهدف كلها إلى النهوض باللغة العربية وتشخيصه وتحليله، وتقويمه هذه المشاريع والمبادرات، إذ واكب هذه المحطات والمنعطفات جميعها، محاضراً في ما كان منها مؤتمرات، وعضواً في مجامعها العلمية وهيئاتها الاستشارية في ما كان منها مشاريع وبرامج ومؤسسات مشاركًا في سجالها، ومساهماً أحيانا في توظيبها، أو مستقرئاً لنتائجها، ومشاركاً في إنضاج بعضها.

يحاول الكاتب على امتداد عرضه التوثيقي التحليلي في آن واحد أن يوفر للقارئ خيوطا ناظمة تسهل عليه مهمة تجميع الإدراك في شأن مبادرات ومشاريع وقضايا ومساءلات تتداخل في سياقها الزمني وتتفاصل في مقاربتها لأولويات حلّ المعضلة اللغوية في الواقع العربي.

ينطلق الدكتور المسدي من عرض حال اللغة العربية وتشخيص أوضاعها بين أهلها وأبنائها وذويها مع نهاية القرن العشرين، ثم يتطرق إلى حوادث 11 أيلول 2001 وما نجم عنها من انفجار الضغائن الثقافية الكبرى فتطايرت شظاياها على اللغة، ثم ينتقل إلى أبرز إنجاز صنعه المثقفون العرب حين أصدروا وثيقة الإسكندرية وأسسوا لمنتدى للإصلاح السياسي العربي، ليعبر إلى ما حاول القادة العرب استدراكه في مجال القضية اللغوية ضمن منظومة العمل العربي المشترك، ليصل بعد ذلك إلى مشاريع أطلق بعضها في سياق ما يعرف بالمجتمع المدني، وبعضها الآخر كان نمطاً جديداً مزدوج الصفة يتخذ شكل منظومات المجتمع المدني وترعاه جهات نابعة من السلطة الرسمية تكون حاضناً كفيلاً.

يسبر الكاتب ما عسى أن تكون المسألة اللغوية قد جنت من تفجر الأوضاع في بعض أقطار العالم العربي، وبروز بوادر تحوّل تاريخي عميق.

ختاماً، يضع الكاتب مسردًا يبوب فيه تواريخ الحوادث والمبادرات والمشاريع المذكورة في الكتاب طبقًا لتسلسلها الزمني. ولا تقتصر أهمية هذا المسرد بحسب ما يقول الكاتب على تيسير مهمة القارئ حين يروم إعادة ترتيب الوقائع والشواهد، بل يوفر مادة خاماً لإنجاز قراءة أخرى للقضية اللغوية في واقعنا العربي، يعتمد فيها التعاقب التاريخي بكل جدلياته. فتلك دعوة صريحة للباحثين والمهتمين بحقل اللغة العربية ليكون الكتاب وما حواه من تجربة سنين طويلة منطلقاً لأبحاثهم وقاعدة توفر عنهم عناء البدء من العدم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى