كنيسة الزيتون أو سيدة النياح… تحفة الفنّ الكنسي البيزنطي في سورية

لورا محمود

«على المقادس مذ تظاهر نورُها أرختها مظهرة الأنوار».

هذا ما نقش على الرخام الموضوع في صدر كنيسة الزيتون أو كنيسة سيدة النياح، أولى المحطات السياحية الدينية وأشهر كنائس سورية التي يعود تاريخ تشييدها إلى أكثر من 150 سنة، وهي أيضاً أكبر الكنائس الملكية الكاثوليكية في العالم وأجملها وأكثرها إتقاناً وأقربها إلى الفنّ الكنسي البيزنطي.

الموقع والتسمية

كنيسة الزيتون أو كاتدرائية سيدة النياح للروم الملكيين في دمشق، هي مقر أبرشية دمشق للروم الملكيين الكاثوليك، ويعود عمر هذه الكنيسة إلى بدء تأسيس طائفة الروم الملكيين الكاثوليك في المشرق، والتي بدأت من دمشق. وهذه الكنيسة تعرف بين أهل مدينة دمشق بكنيسة الزيتون نظراً إلى كثرة أشجار الزيتون الموجودة في فناء هذه الكنيسة الكاتدرائية التي كانت موجودة قديماً فيها.

الكاترائية تقع ضمن مقر بطريركية الروم الكاثوليك في دمشق القديمة، وتعدّ من أهم التحف المعمارية الموجودة فيها. وتقع إلى جوار الكنيسة، المدرسة الإكليركية الصغرى، وقد جدّدت هذه الكنيسة مرّات عدّة، آخرها في عهد البطريرك غريغوريوس الثالث لحام بطريرك الروم الملكيين في سورية والمشرق.

شراء الأرض

بحث أبناء الروم الكاثوليك في دمشق عن قطعة أرض تصلح لبناء كنيسة لهم، فلم يجدوا سوى آثار دار هي «كنيس لليهود القرّايين» تحيط به أرض فسيحة فيها بستان، تقع في حارة الزيتون في الجهة الشرقية من المدينة على مقربة من بابها الشرقي ومن أسوار المدينة. وهي قريبة أيضاً من المكان التاريخي الذي تدلّى منه القدّيس بولس في سلّ، إذ هرب ليلاً من وجه اليهود على ما جاء في أعمال الرسُل.

وكان هذا الكنيس متداعياً ولم تسلم منه إلّا بعض أجزاء من جدرانه ومن سقفه. وكان مهجوراً لأنّه لم يبقَ «لليهود القرّايين» أثر في دمشق. لذلك حضر من القدس مندوب عن طائفة «القرّايين» اسمه روفائيل مدعوّاً من الروم الكاثوليك للتعامل معه في مسألة شراء «الكنيس» ولتحرير عقد البيع. ولمّا أوشكت المعاملات على نهايتها، دُسّت الدسائس على الكاثوليك لعرقلة البيع ومنعه. وبعد الكثير من العراقيل قبض ثمن «الكنيس» والأرض المجاورة له وبيعت أيضاً أرض الكنيسة ودار البطريركية والحديقة الواقعة جنوب الكنيسة وأرض المدرسة.

البناء

بعد إتمام البيع، جهد الروم الكاثوليك في الحصول على الترخيص من السلطات المصرية لبناء الكنيسة، وهي عملية صعبة بالنسبة إلى المسيحيين في «دولة إسلامية»، إلّا أن وجود حنّا بك البحري بين أركان السلطة المصرية، وقربه من إبراهيم باشا، سهّل عملية الحصول على أمر الإذن ببناء كنيسة الروم الكاثوليك.

بعد إنهاء الإجراءات القانونية بدأت عملية البناء واشترك أبناء الرعية أجمعهم في تشييد كنيستهم الجديدة. فقد كانت الجدران من الحجر، أما الإيقونسطاس فكان من حجر أصفر يتخلّله قليل من الرخام، وصحن الكنيسة كان مبلّطاً بالحجر الشامي المعروف «بالمزي». ودام العمل في بنائها نحو سنتين وانتهى عام 1834.

وقد نُقشت في صدر الكنيسة، على قطعة من الرخام، أبيات من الشعر تؤرّخ لبناء الكاتدرائية، وكانت قطعة الرخام محفوظة في «السكرستيا» وهو الأثر الوحيد الذي سَلُم من حريق الكنيسة عام 1860. أمّا مركزها الطبيعي فكان في صدر باب الكاتدرائية الخارجي وهي على الأرجح مفقودة اليوم لأننا لم نجد لها أثراً لا في داخل الكنيسة ولا في خارجها.

إعادة البناء

بعد أحداث عام 1860، المعروفة في دمشق بسنة «الطوشة»، أعاد الدمشقيون بناء الكاتدرائية على مساحة أوسع، ودام العمل فيها نحو سنتين حتى اكتمل البناء عام 1864.

وقد استعملوا أموال المساعدات التي قُدّمت للمتضرّرين من أحداث 1860، وبلغت قيمتها 25 ألف ليرة فرنسية لإعادة بناء الكاتدرائية والدار البطريركية. إضافة إلى التبرّعات التي قدّمها الدمشقيون لكنيستهم. وتتناقل الروايات عن أنّ النساء بادرن إلى تقديم ما احتفظن به من مجوهرات إلى الكنيسة مساهمةً ماديةً لإعادة بنائها. وقد وضع الرسوم الهندسية للبناء الجديد يوسف بن نقولا وردة، مراعياً فيها الأصول البيزنطية، وقد مزجها بشيء من الذوق السوري الذي كان دخل على الفنّ البيزنطيّ في العصور المتأخرة والذي سُمّي بالفنّ السوري البيزنطي.

وقد جُدّدت الكنيسة عام 2000 بإزالة القشرة الإسمنتية عن جدرانها وأعمدتها وسقوفها، لتظهر كتُحفة فنية، وجرى ذلك على عهد البطريرك غريغوريوس الثالث.

الهندسة المعمارية

بناء الكنيسة ممتد بشكل عرْضي، أمامه رواق مشيّد بالحجارة البازلتية السوداء، وفوق المبنى برجان يعلو كلّ منهما الصليب. البرج الأيسر للناقوس، وفي الأيمن ساعة كبيرة وُضعت عام 2003 وترتفع قبة ضخمة بين هذين البرجين وفوقها الصليب.

وُجهتها إلى الشرق، أُلصقت في جدارها الغربي الخارجي هياكل عدة. يتقدّمها مدخل خشبيّ مزجّج مستطيل الشكل، فباب رئيس محاط بالرخام الملوّن، وفي أعلى الوسط لوحة رخامية مزخرفة جاء فيها باليونانية وبترجمتها العربية: «أنا أقول لك أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها»، ثم ضمن مستطيل رخامي إنجيل مفتوح محفور بالرخام ويعلو الباب نصف طاسة رخامية. وفي جانبَي الباب أيقونة فنية قديمة مؤطّرة خشبياً للقديس جاورجيوس مؤرّخة عام 1878 إلى اليمين وأخرى للسيدة الحنون مؤرّخة عان 1877 إلى اليسار . أمّا الباب الرئيس المغطّى بالنحاس المزخرف فيتضمّن في كلا الدرفتين ثلاث طبقات متناظرة من الأعلى إلى الأسفل: الصليب، كأس القربان، سلّة ورود، ويرقى تاريخه إلى عام 1890.

الكنيسة من الداخل فخمة ضخمة غنية بالأيقونات. نمطها بازيلكي ولها بابان جانبيان من الجنوب والشمال. أرضيتها رخامية، تحيطها من الجنوب والغرب والشمال كراسٍ لصيقة الجدران. وفي الطابق الثاني يرتفع على العمود الثالث، يميناً ويساراً، قنديل خشبي يُصعَد إليه عبر درج لولبيّ خشبيّ وفي طرف شرفته أيقونات خشبية صغيرة للإنجيليين الأربعة والسيد المسيح وبعض الرسل.

لها قبة نصف مستديرة تستند إلى رقبة مضلّعة باثني عشر ضلعاً ونوافذ بزجاج ملون. وفي زواياها الأربع رسوم جدارية للإنجيليين الأربعة. وفي وسط القبة صليب بيزنطي الشكل ذو أربع أذرع متساوية. وفي الطرف الأيسر الأمامي عرش الأسقف، وفي صدر الإيقونسطاس إلى اليمين العرش البطريركي تعلوه مظلة خشبية.

وتنتشر في جدران صحن الكنيسة هياكل رخامية كثيرة، منها كبيرة ومنها صغيرة، تحوي أيقونات للقدّيسين وللسيدة العذراء ولمشاهد من حياة السيد المسيح.

يفصل الصحن عن قُدس الأقداس إيقونسطاس رخامي أبيض اللون جميل جداً مزخرف بتزيينات ودانتيلات ووردات له تسع فتحات. وهناك ثلاثة أبواب نحاسية كبيرة أكبرها «الباب المقدّس» الرئيس في الوسط وهو بدرفتين حُفر فيهما الإنجيليين الأربعة وإلى جانب كل منهما بابان. يُصعد إليه بثلاث درجات رخامية طويلة. ويحوي في طبقته السُفلى سبع أيقونات كبيرة والعرش البطريركي، وفي العُليا 31 أيقونة متوسّطة الحجم تتوسّطها أيقونة السيد المسيح وإلى جانبيه الرسل وبعض القدّيسين. ويُذكر أن أيقونات الإيقونسطاس تنتمي كلّها إلى الفنّ الروسيّ.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى