ملاحظات مبدئية حول نظرية سعاده في «التطور الاجتماعي والمتحد الأتمّ» من خلال مؤلفه «نشوء الأمم»
إعداد الأمين الياس عشّي
ثمّةً ملاحظات مبدئية بنى عليها سعاده نظريته في «التطوّر الاجتماعي والمتّحد الأتمّ»، وهي ملاحظات منهجية اعتمدت المقدّمات والنتائج، للوصول إلى نظرية علمية في موضوعي التطوّر الاجتماعي والمتّحد الأتمّ الذي هو الأمّة.
من هذه المقدّمات:
1 ـ أسبقية الأرض على الحياة. وهي البدهية الوحيدة التي يلتقي حولها العلماء ورجال الدين.
2 ـ ولأنّ الأرض مُناخات متعدّدة، وجغرافيات متعدّدة، يرى سعاده أنّ لكلّ بيئة خصائصها، وأنّ الاستنباط والتكيّف يجب أن يكونا ملازمين لخصائص البيئة الطبيعية ونموذجه التاريخي، لتأكيد ذلك، اختراع العجلة في بيئة تتمتّع بغلاف خارجي صلب، وحتماً ليس رملياً.
ويمكن تأكيد ذلك بكثير من الأمثلة .
3 ـ ويضع معادلة في غاية البساطة والعمق: «لا بشر حيث لا أرض، ولا جماعة حيث لا بيئة، ولا تاريخ حيث لا جماعة». وهو مثلّث متساوي الزوايا: أرض – بيئة – جماعة.
4 ـ ويفرّق سعاده بين الاجتماع الإنساني والتجمهر الحيواني، ويقول: «في الاجتماع الإنساني ظاهرتان مفقودتان في غيره، هما استعداد الفرد لبروز شخصيّته، واكتساب الجماعة شخصيتها التي تكوّنها من مؤهّلاتها الخاصة، وخصائص بيئتها». الفرد هنا هو روح الجماعة بكلّ ما يحمله من مواهب وأخلاق.
5 ـ ويصل سعاده، دون أن يصدر أحكاماً عامة وجازمة، إلى الخلاصة التالية: «إنّ الاجتماع البشري يقسم إلى نوعين رئيسين: الاجتماع الابتدائي ورابطته الاقتصادية الاجتماعية هي رابطة الدم، والاجتماع الراقي ورابطته الاقتصادية الاجتماعية مستمدّة من حاجات المجتمع الحيويّة للارتقاء والتقدّم بصرف النظر عن الدم ونوع السلالة». ويضيف موضّحاً: «في الاجتماع الأول تقع الشعوب والقبائل التي هي في بداوة، وفي الاجتماع الثاني تقع الشعوب التي أخذت بأسباب الحضارة وأنشأت الثقافة».
6 ـ بعد هذه المقدّمات يرسم سعاده مشهد التطوّر الاجتماعي والمتحد الأتمّ:
أ ـ المجتمع القبلي: يقوم نظامهم الاجتماعي على الرابطة الدموية المنتهية بالقبيلة – لا فروق أساسية بين أفراد القبيلة – قيمة الفرد قيمة كمّية لا نوعيٌة – وهو نظام يخلو من الحقوق الشخصية – أما حق التملك للأفراد فلا نعثر عليه إلا في حالات استثنائيّة – يلفت سعاده إلى أنّ المجتمعات القبلية، أينما وجدت، تتفق في كثير من العادات والتقاليد والأذواق والصفات الخلقية كالكرم والضيافة والفروسية وواجب الثأر والتعلق بالشرف، كما تتشابه في موقفها من المرأة. وبالفعل إذا عدنا إلى القبلية العربية في العصر الجاهلي، وجدنا أنّ كلّ القبائل تلتقي على قوانين واحدة غير مكتوبة، فكلّ القبائل ردّدت: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» و «في الجريرة تشترك العشيرة» و «نظام الخلع» و «حسن الجوار» وما هنالك من أعراف صارت بحكم القانون. وإذا عدنا إلى المقارنة، على سبيل المثال وليس الحصر، بين جاهلية العرب وجاهلية اليونان في مجتمعهما القبلي لوجدنا التطابق مذهلاً.
ملاحظة: يمكن إعطاء الكثير من الأمثلة على المجتمعات القبلية.
ب ـ المجتمع المديني: كان لإدخال المحراث والتسميد وزراعة البستان دور بارز في تغذية عدد أكثر من الناس الذين راحوا يؤكّدون إقامتهم في الأرض وذلك بتثبيت العمران وزيادته. لم يعد الأمر المعيشي قائماً فقط على الالتقاط، والرعي، والصيد. بل بدأت الثورة الزراعية التي تفرض مواسم للإنتاج والتخزين والمقايضة. من هنا نشأت المدينة فارضة المجتمع المديني كبديل عن المجتمع القبلي. وفي هذا المجتمع الجديد يلاحظ سعاده ارتقاءً في شؤون المأكل واللباس، وازدياداً في الصناعات اليدويّة، واتساع نطاق التمييز الصناعي الطب – فن الحرب – فن النحت – فن النقش – فن الكتابة الأولية ، تطوّر التجارة. ورغم ذلك ظلّت الحياة العقلية ابتدائية ومقيّدة بالضروري لشؤون المجتمع المديني هذا. وظلّ الأمر على هذه الحال إلى أن استنبط الكنعانيون الفينيقيون الأحرف الهجائية التي من خلالها يبدأ التمدّن الحديث.