إعادة التفكير في الحربين: الباردة والجديدة
ترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق
كتب بول كريغ روبرتس في موقعه الإلكتروني
«www.paulcraigroberts.org»:
بدأت الحرب الجديدة في عهد إدارة ترومان واستمرّت إبان حكم آيزنهاور، كنيدي، جونسون، نيكسون، فورد وكارتر، وانتهت أثناء ولاية ريغان الثانية، عندما توصّل كلّ من ريغان وغورباتشوف إلى اتفاقية تؤكّد على أن الصراع كان خطيراً، ومكلفاً، وعبثياً.
لم تتوقف الحرب الباردة لفترة طويلة، بل فقط منذ ولاية ريغان الثانية وحتى السنوات الأربع الأولى من حكم جورج بوش الأب. وخلال التسعينات من القرن الماضي وفي فترة حكم الرئيس كلينتون، عادت الحرب الباردة لتبدأ عندما خرقت الولايات المتحدة الأميركية وعودها بعدم نشر قوات حلف شمال الأطلسي الناتو في أوروبا الشرقية. تجدّدت الحرب الباردة في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، عقب انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة مكافحة الصورايخ البالستية، ليقوم أوباما في ما بعد بتسخين خطابه غير المسؤول حيال هذه الحرب، وينشر صواريخ الولايات المتحدة على الحدود الروسية ويطيح بالحكومة الأوكرانية.
إن الحرب الباردة هي صنيعة واشنطن. إنها من عمل الأخوة دالاس. فآلِن كان رئيس وكالة الاستخبارات الأميركية، وجون فوستر وزيراً للخارجية، وقد شغلا هذين المنصبين لفترة طويلة. وكان في مصلحتهما الإبقاء على الحرب الباردة لأطول فترة ممكنة. فقد استخدما الحرب الباردة لحماية مصالح عملائهما في شركة المحاماة الخاصة بهما، واستغلّا قيام هذه الحرب لتعزيز قوتهما والميزانيات المرتبطة بالمناصب العليا في الحكومة. والأكثر إثارةً من هذا كلّه، أنهما كانا المسؤولَيْن عن النشاطات السرّية للسياسة الخارجية في الأوقات العصيبة.
وكلّما كانت تظهر إلى العيان في أميركا اللاتينية حكومات ديمقراطية إصلاحية، كان ينظر اليها الأخوة دالاس على أنها تشكل تهديداً لحيازة عملاء شركاتهم ولقوانينها في هذا البلد. وقد تطلّبت هذه الحيازات، في بعض الأحيان، تقديم الرشى للحكومات غير الديمقراطية، لتحويل البلاد وثرواتها ووضعها بين أيدي الأميركيين، وبهذه الطريقة يضمن الأخوة دالاس الاحتفاظ بمقدّرات البلاد. قد يُعلن عن هذه الحكومة الديمقراطية على أنها ماركسية أو شيوعية، فتعمل وكالة الاستخبارات الأميركية جنباً إلى جنب مع وزارة الحارجية على الإطاحة بها ليضعوا في مكانها رئيساً عدواً ينام في سرير واشنطن.
كانت الحرب الباردة بلا فائدة، إلا بالنسبة إلى مصالح الأخوة دالاس وتلك التابعة للمجمّعات العسكرية والأمنية. وعلى عكس الحكومة الأميركية، فإن الحكومة السوفياتية لم تكن تمتلك يومذاك الهيمنة على العالم. وكان ستالين قد أعلن «الاشتراكية في بلد واحد»، وطهّر البلاد من التروتسكيين ودعاة الثورة العالمية. لم تكن الأنظمة الشيوعية في الصين وأوروبا الشرقية من منتجات الشيوعية السوفياتية. كان ماو من صنع نفسه بنفسه، بينما أبقى الاتحاد السوفياتي أوروبا الشرقية تحت سيطرة الجيش الأحمر الذي طرد النازيين وحوّل تلك البلدان إلى منطقة عازلة ضدّ الغرب العدائي.
وكان «الخوف الأحمر» في تلك الأيام، يُستخدم كـ«الإرهاب الإسلامي المرعب» اليوم، بهدف إجبار الشعب على العمل جنباً إلى جنب مع الأجندة المفروضة من دون نقاش أو حتى فهم. والحرب الفييتنامية خير مثال على ذلك. وكان هو تشي منه رائد النهضة القومية ومعادياً للاستعمار. لم يكن عميلاً للشيوعية الدولية، غير أن فوستر دالاس نجح في جعله كذلك، وقال إما علينا إيقاف هو تشي منه، أو أن «نظرية الدومينو» ستؤدّي إلى سقوط جنوب شرق آسيا في أحضان الشيوعية. كسبت فييتنام الحرب ولم تطلق العدوان الذي تنبّأ به الأخوة دالاس ضدّ جنوب شرق آسيا.
لجأ هو تشي منه إلى الولايات المتحدة للحصول على الدعم ضدّ القوات الاستعمارية الفرنسية التي حكمت الهند الصينية. رفضت أميركا، فتحوّل إلى روسيا. ولو أن واشنطن أخبرت ـ ببساطة ـ الحكومة الفرنسية أن حقبة الاستعمار قد انتهت وأنه من الضروري إجلاء قواتها عن أراضي الهند الصينية، لكان بالإمكان تجنّب اندلاع حرب فييتنام. لكن اختراع التهديدات كان يصبّ في مصلحة الجماعات المتنامية كالعفاريت، حيث أضحت واشنطن كغيرها من الآخرين، والتي ستقع فريسة الوحوش الوهمية.
لم يكن هناك من ضرورة لحلف الناتو حيث لا يشكل الجيش الأحمر أيّ خطورة على أوروبا الغربية. فالحكومة السوفياتية عانت ما يكفي من المشاكل من المتمرّدين على احتلالها بلدانهم في أوروبا الشرقية. كما ووجه الاتحاد السوفياتي بانتفاضة في ألمانيا الشرقية عام 1956، ومن الحزب الشيوعي نفسه في تشيكوسلوفاكيا عام 1968. وعانى الاتحاد السوفياتي من خسارة فادحة في تعداد السكان خلال الحرب العالمية الثانية والكمّ المطلوب من القوى العاملة والشابة لإعادة الإعمار. إن احتلال أوروبا الغربية إلى جانب أوروبا الشرقية، لم يكن أبداً في حدود إمكانيات الاتحاد السوفياتي. فالأحزاب الشيوعية الفرنسية والإيطالية كانت قوية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وكان لستالين أسبابه الموجبة لاعتبار أن هذه الأحزاب ستساهم في تقويض امبراطورية واشنطن الأوروبية، ليتبيّن أن كلّ هذه الآمال أضحت أضغاث أحلام بسبب عملية غلاديو.
إذاً، مررنا جميعاً في تجربة الحرب الباردة فقط لأنها ساهمت في خدمة الأخوة دالاس وأرباح قوتهم الأمنية والعسكرية. فما من أسباب أخرى كانت تدعو إلى قيام الحرب الباردة.
إن الحرب الباردة الجديدة ستكون أكثر فائدة من تلك الأولى. فروسيا كانت تتعاون مع الغرب، وكان يتمّ دمج الاقتصاد الروسي مع ذلك الغربي باعتباره مورداً أساسياً للمواد الخام. وقد صُمّمت السياسة الليبرالية الاقتصادية الجديدة والتي تمكنت واشنطن من إقناع الحكومة الروسية بها، للحفاظ على الاقتصاد الروسي ودوره كمورد أساسي من المواد الخام إلى الغرب. أعربت روسيا عن عدم اهتمامها بالطموحات الإقليمية وأنفقت القليل جداً على جيشها.
ستكون الحرب الباردة الجديدة صنيعة حفنة من المحافظين الجدد والمتعصّبين للغاية، ممّن يؤمنون بأن التاريخ هو الذي اختار الولايات المتحدة، ومكّنها من فرض هيمنتها الأحادية على العالم. بعض هؤلاء المحافظين هم أبناء التروتسكيين القدامى، ويمتلكون النظرة الرومنسية عينها للثورة العالمية، وهنا ظهرت ـ وللمرّة الأولى ـ «الديمقراطية الرأسمالية» لا الشيوعية.
تبدو الحرب الباردة الجديدة أكثر خطورة بكثير من سابقتها، العقائد الحربية للقوى النووية قد تغيّرت. فوظيفة الأسلحة النووية لم تعُد انتقامية. فالدمار المتبادل والمؤكد كان الضمانة على عدم استخدام هذه الأسلحة. أما عقيدة الحرب الجديدة للأسلحة النووية، فقد ارتفعت وتيرتها لتصل حدود الهجوم النووي الوقائي. وقد بادرت واشنطن في اتخاذ هذه الخطوة، لتلحق بها في ما بعد كلّ من روسيا والصين.
تبدو الحرب الباردة الجديدة أكثر خطورة لسبب ثانٍ. فخلال الحرب العالمية الأولى، ركز الرؤساء الأميركيين على التخفيف من حدّة التوتر بين القوى النووية. بينما أثارت أنظمة كلّ من كلينتون، جورج دبليو بوش، وأوباما من هذه التوترات بشكل دراماتيكي. وكان وزير الدفاع في حكومة كلينتون، ويليام بيري، قد تحدث مؤخراً عن خطر نشوب حرب نووية، قد تُطلق بسبب إنذارات خاطئة ناجمة عن أشياء مثل رقائق الكومبيوتر الخاصة. ولحسن الحظ، أنه عندما كانت مثل هذه الأحداث تقع في الماضي، لم تكن تثير هذه الإنذارات الكاذبة ذلك التوتر بين القوى النووية، بسبب غياب التوتر في العلاقات بينها. أما اليوم، ومع المزاعم المستمرّة المتوقعة لحدوث غزو روسيّ، وحيث يجري على الدوام التجريح ببوتين على أنه «هتلر الجديد»، أصبح تراكم انتشار قوات الولايات المتحدة وحلف الناتو على الحدود الروسية زعماً يسهل تصديقه.
فقد الحلف الأطلسي الهدف من وجوده بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ومع ذلك، فإن مهناً كثيرة، وميزانيات، وأرباح التسلّح تعتمد على الناتو. استولى المحافظون الجدد على حلف شمال الأطلسي بوصفه غطاءً سياسياً وقوة عسكرية لطموحاتهم التوسعيّة. أما الهدف من الناتو اليوم، فهو توريط أوروبا بجميع جرائم واشنطن الحربية. وبما أن الجميع يقفون في خانة الشعور بالذنب، فإن الحكومات الأوروبية لا تستطيع أن تتحوّل إلى واشنطن وتلقي بتبعة جرائم الحرب على الأميركيين فقط. ورغم جرائمه المريعة ضدّ الإنسانية، فإن الغرب لا يزال يحتفظ بموقع «منارة العالم»، المدافع عن الحقيقة، العدالة، حقوق الإنسان، الديمقراطية، وحرية الفرد. وتستمرّ هذه السمعة على رغم تدمير وثيقة الحقوق وقمع الدولة البوليسية.
لم يعُد الغرب يمثل تلك القيم التي عمل على غسل أدمغة شعوب العالم بها باعتبارها الإرث الذي يفتخر فيه. فعلى سبيل المثال، لم يكن هناك من حاجة إلى مهاجمة المدن اليابانية المدنية بالقنابل الذريّة. حاولت اليابان الاستسلام والصمود ضدّ الطلب الأميركي على الاستسلام غير المشروط، فقط لتجنيب الامبراطور الإعدام بسبب ارتكابه جرائم حرب لم يكن في مقدوره السيطرة عليها. وكما السيادة البريطانية اليوم، فلم يكن للإمبراطور أيّ سلطة سياسية بل كان رمزاً للوحدة القومية. وخشي قادة الحرب اليابانيين أن تذوب الوحدة اليابانية، إذا ما أقيل الإمبراطور ـ رمز الوحدة الوطنية. وبالطبع، فقد كان الأميركيون جاهلين للغاية وبعيدين من القدرة على تفهّم هذا الوضع، وهكذا، قضى ترومان الصغير بقية حياته ضائعاً بسبب خوفه من اللاوجود، متقوقعاً داخل صومعته القوية الباهرة مطلقاً الصواريخ والقذائف كيفما اتفق.
لا شكّ في أن القذائف التي أُسقطت فوق اليابان كانت قوية للغاية. ومع ذلك، فإن القذائف الهيدروجينية التي استُبدلت في ما بعد، كانت أقوى بكثير. إن استخدام مثل هذه الأسلحة لا يمكن أن يتوافق مع الحياة على الأرض.
يرى دونالد ترامب أن الخلاص الوحيد يكمن في الحملة الرئاسية. وقد دعا إلى مساءلة الناتو في صراعه المحبوك جيداً مع روسيا. لا نستطيع أن نعرف ما إذا كنا سنصدّقه أو ما إذا كانت حكومته ستسير على النهج عينه. غير أننا ندرك جيداً أن هيلاري مهووسةٌ بالحرب، عميلة للمحافظين الجدد، للمجمّع الأمني ـ العسكري، للّوبي «الإسرائيلي»، للبنوك الكبيرة، وول ستريت، وجميع المصالح الأجنبية التي سوف تمنح بلايين الدولارات لمؤسسة كلينتون الخيرية، فضلاً عن رسوم تُقدّر بربع مليون دولار على كلّ خطاب تطلقه.
أعلنت كلينتون أن الرئيس الروسي هو التهديد المطلق ـ «هتلر الجديد».
هل يمكن للصورة أن تكون أوضح من هذا؟ إن تصويتاً لهيلاري سيكون بمثابة تصويتٍ للحرب. ورغم وضوح هذه الحقائق وجلائها بالنسبة إلى الإعلام الأميركي، فإنهم يكرّسون جميع جهودهم لإسقاط ترامب وانتخاب كلينتون.
فماذا يخبرنا هذا عن ذكاء «القوة الأحادية»، «القوة الوحيدة في العالم»، «الأمة الاستثنائية»؟ إنه يخبرنا عن مدى غباء هذه الأمة المقرف. مخلوقات المصفوفات المتراصة هذه الذين صنعوا دعاياتهم الخاصة بهم، لا يرى الأميركيون سوى التهديدات الخيالية لا تلك الحقيقية.
أما ما يراه الروس والصينيون فهو شعوب خضعت لعمليات غسل أدمغة، جاهلةً كيفية دعمها السلام. أدمغة وعقول ترى وتدرك أن الحرب قادمة لا محالة، لا بل تتحضر لاستقبالها.
الدكتور بول كريغ روبرتس، هو مساعد وزير الخزانة للسياسة الاقتصادية، ومحرّر في صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية. كان كاتب عمود في مجلة «Business Week, Scripps Howard News Service», و«Creators Syndicate». شغل عدداً من المناصب الجامعية. له أبحاث وكتب عدّة في الاقتصاد والسياسة.