عماد منذر في «رفيقي»… يقتل قصيدته لينير بزيتها مصابيح الطريق!
النمسا ـ طلال مرتضى
عندما يلج الشعر سهل الوطن الممتنع، تشفّ اللغة بين أصابع الشاعر حدّ التماهي، لِتُدلي بنفائس فرائدها من دون تلكّؤ. حينئذٍ، تدرّ أثداء القصائد لبان رغبتها، تفتح بيوت سرّها كمعشوقة غنوج، تميد سكرى مثل غصن زيزفون كلّما عبّته النسمات المتهادية يرهفُ حبر القول. كيف وإن كانت الهيفاء قد رضعت من سقيا الشام «المزوبِعة»:
قصيدتي متى وزنتُها ألبستُها ثوباً دمشقياً زيَّنتها
شعارُها زوابع على وجهي رسَت أسفارُها نَمتْ أبياتُها.
في المطبوع الجديد «رفيقي» للشاعر القوميّ عماد منذر، الصادر عن دار «المرام» البيروتية للطباعة والنشر، نَلجُ غير مدخلٍ للشعر العظيم، وغير دوالّ كما في المقولات السابقة، التي تفتعل من الحبّ حاملاً رئيساً، لقرع ديدن قارئها الظامئ.
وفي انعطاف استرجاعيّ سريع بعد انطباع القراءة الأولى، لا بدّ للناقد أن يتلمّس دونما عناء بأنه يقف عند مفترق طرق، من حيث الإدلاء بمقولة مقنعة تروي غرور قارئها، وهي أنّ الديوان يستجدي قراءتين منفصلتين: الأولى تتعاطى مع الحالة البنائية ـ معمار القصائد ـ للوقوف على نواصي المضمر المخبوء وفكّ أكواده، والأخرى كون المُنجز يحاكي حالةً خاصة، تتعلّق بمرجعية الشاعر وأيدلوجيته، وهذا ما يجعل القارئ الفاحص يدخل في حالة من التجاذبات، قد تؤثر في موضع ما على أهمية القيمة التي سيسقطها على ثيمات الديوان وعلائقه.
وهذا ما جعلني أذهب بعيداً وبتوجّس، بعد الغوص في رسائل القصائد الموجّهة وعلى فحوى مُعطاها، لأصل إلى قناعةٍ مطلقة بأنّ المُنجَز الجديد يمكن التوكّؤ عليه لبناء دستور اجتماعيّ خالص من دون الاقتراب من معطاه السياسي. إذ إنّ موضوعات القصائد حملت وصايا قيمة يمكن التأسيس عليها لافتعالات يومية في الحياة. وذلك في ما يتعلق بالمساوة والعدالة والتسامي والإيثار، وهذا ما ينتج في المحصّلة النهائية إلى حالة عشقية خالصة للوطن الذي دأب الشاعر منذر منذ فواتح الكلم، أن يغشي عن وجهه الغبار، ليفضح المؤامرة التي حيكت ضدّه:
كفانا تكاذباً على بعضنا، أضحى
المحبِّونَ بيننا نُعوشاً وأكفانا.
وفي موطئ كشف المخبوء يقول:
كَمنتْ لها دولٌ على النسق الخفي
خفقَتْ بها عصفتْ تراهنُ كسْرَها
جدلتْ عشيّتها بفطنتها غداً
بَهِجاً علتْ نسفتْ قيامَ عدوّها
أذنتْ لضيفتِها الدخولَ مَلَتْ لها
ذهباً أوتْ… طعنوا الرّماح بظهرها
كتبتْ على جسد الشّهيدِ روائعَ
قتلتْ عِدى يتنافسون قتالَها!
عماد منذر، وهو المتسامي رغم كلّ جراحاته النازفات، حينما يترفع واقفاً في مواجهة العصف الكبير، متناسياً كلّ أوجاع البلاد أمام الهوج الأكبر، كي لا تزيح البوصلة عن مسارها الأهم، فلسطين المغتصبة، معلناً ملء حبر القول:
فالقدسُ بابي والأسيرُ كنيستي
من دونهم لا صاعدَ جنَة العلي.
كيف لا وهو الوارث إرث رفيقه المعلّم، فكراً وشمائلَ، فمن يمنعه إذاً من التباهي والزهوّ بأنه ناشد نصر:
نحن فجّرنا دمانا كالشموس
واستمرّت ساخناتٍ في القتال
انظروا تمّوز صدّاح الصروح
غايةً للنصر ديناً للآمال.
عماد منذر، ومن دون تردّد، ومنذ قصيدته الأولى، نهجَ السبيل الموجّه لإيصال صوته إلى القارئ، أي الطريق الأقرب إلى الجمهور. فلم يوارب القول أو المتلقي، وهذا ما ألبس قصائده ثوب المباشرة والخطابية، وبدا هذا جليّاً في معظم النصوص ومواضيعها حيث رثا القائد شاكياً همّ الأمّة:
فيا أمّة اِرثي شهيداً مكلّلا
بغارٍ وشربينٍ لنصرٍ تضوّعا!
وهذا ما جعله يسير في نسقه مترفّعاً، حتى عندما حاول الجناة قتل صوته للنيل من مقولته، لتخرج القصيدة من موتها متسامية أمام مصابها الكبير، جُرح الوطن، متخفّفة من أنا الشاعر القائل:
قَتلتُ قصيدتي
وانتهى التحقيق
القاتلُ ليس سعيداً
حاولت روحُها مواساة الجاني
تعبيراً عن تسامحها.
وُفّق الشاعر حينما اختار القصيدة العمودية ـ الكلاسيكية ـ حاملاً لديوانه الجديد، وهو يدرك منبريّتها وسلاسة وصول رسائلها، فبدت متخفّفة بسهلها الممتنع القريب من المنطوق اليوميّ، وهذا ما يجعلها فاعلة وطافحة.