تقرير
تقرير
أردوغان رجل الإطفاء الذي يُحبُّ إشعال النار
كتب بوعز بسموت في صحيفة «إسرائيل اليوم» العبرية:
عندما دخلت القوات التركية إلى سورية، قبل عشرة أيام، كان نائب الرئيس الأميركي جو بايدن يزور أنقرة. وغطّت وسائل الإعلام العربية ببروز التنسيق بين الأتراك والأميركيين في الحرب ضدّ معاقل «داعش» في سورية، وحتى البنتاغون تباهى بالتعاون الوثيق بين الدولتين.
أما عملياً، كما تروي لنا وسائل الإعلام الأميركية هذا الاسبوع، فإن الصورة خلف الكواليس كانت مختلفة: واشنطن لم تعمل بالتنسيق مع أنقرة. وعملياً، فاجأ الأتراك الأميركيين بالخطوة المفاجئة في سورية. ولكن في نهاية المطاف، وجدت القوة العظمى نفسها تسير على الخط مع تركيا ضدّ الأكراد . بالضبط مثلما سارت على الخطّ مع روسيا في إبقاء الأسد في الحكم بالضبط مثلما سارت على الخطّ مع إيران في الاتفاق النووي . لقد اعتدنا على أن إدارة أوباما لا تخشى الرقص مع الذئاب. وماذا عن الأكراد؟ حسناً، من يهمه الأكراد. للتهكّم الأميركي في الأزمة السورية لا حدود.
في البيت الأبيض لم يتصوّروا أن هذا ما سيحصل. فقد انكبّوا بجدّية على خطة سرّية، في إطارها تنضمّ قوات أميركية خاصة إلى القوات التركية التي تجتاح سورية. غير أنه في الرابعة فجراً من الاربعاء الماضي، أدخل أردوغان إلى سورية عشرات الدبابات والمدرعات، يرافقهم «معارضون» سوريون، من دون اطّلاع الولايات المتحدة. واضطرت واشنطن إلى التسليم بالمعارك بين الشريكين: من جهة تركيا العضو في الناتو ومن جهة أخرى نشطاء الميليشيا الكردية في سورية «YPG» الذين يساعدون الأميركيين في الحرب ضدّ «داعش». في البنتاغون، دعوا الطرفين إلى إبداء ضبط النفس. أما عملياً، فقد سار بايدن على الخطّ مع أنقرة عندما طلب من قوات الميليشيا الكردية السورية التحرك شرقاً إلى ما وراء نهر الفرات، بالضبط مثلما أراد الاتراك. وفي اليوم الأول من الهجوم التركي الاكبر في سورية منذ بدء الحرب، كان واضحاً أن أنقرة ثابتة: الهدف الأساس للحملة قبل كل شيء منع كيان كردي مستقل. «داعش» يمكنه أن ينتظر. تفكير مشابه لتفكير الروس الذين قبل كل شيء يسعون إلى الحفاظ على الاسد في الحكم. وفي واشنطن يبدون التفهم.
ليس فقط الدخول التركي المبكر إلى سورية فاجأ الأميركيين، لا بل أيضاً النجاح التركي السريع في الميدان. فقد أفادت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية هذا الأسبوع كيف انضمّت الولايات المتحدة إلى القتال، بعدما لاحظ قادتها في المنطقة بداية الهجوم التركي وقصف سلاح الجوّ التركي لمدينة جرابلس المحاذية للحدود والتي كانت تحت سيطرة «داعش». واستخدمت القيادة الأميركية صلاحياتها لمنح الأتراك مساعدة جوية محدودة بواسطة طائرات غير مأهولة وطائرات «إف 16». باستثناء أن كل هذا حصل بعد بدء الهجوم. وبدلاً من أن يكونوا جزءاً من الخطوة، في خطوط النار الاولى، أشرف الأميركيون بقواتهم على ما يجري في جرابلس من الأراضي التركية.
فضلاً عن ذلك، كان الأميركيون مقتنعين بأن المعركة على مدينة جرابلس ستستغرق أياماً طويلة وربما أسابيع. أما عملياً، فقد سقطت المدينة في غضون ساعات. في المرحلة الأولى منذ أعلن «داعش» عن الخلافة في 2014، لم يقاتل، لا بل ببساطة فرّ للنجاة بالروح. واستغلّت محافل تركية الانجازات كي تدّعي بأنّ الولايات المتحدة لا تقدر على نحو سليم ميزان القوى على الارض. وقال مصدر تركي رسمي لـ«وول ستريت جورنال» إن تحرير جرابلس على أيدي الجيش التركي و«الجيش الحر» يثبت أنّ لقواتنا قدرة على القيام بالمهام. لا شك في أن هذه اللذعة لن تساهم في علاقات الولايات المتحدة ـ تركيا، والتي بردت جداً في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة ضدّ أردوغان في 15 تموز. فكمية الشبهات بين الدولتين أكثر بكثير من كمية التفاهمات: الأتراك لا يحبون التعاون بين واشنطن والأكراد، بينما الأميركيون يخشون من أن شريكتهم في حلف الناتو، تركيا، ستغرق في الوحل السوري.
لا شكّ في أن المناورات التركية التي هدفها قبل كل شيء منع الميليشيات الكردية من السيطرة على مناطق في شمال سورية، تضع واشنطن أمام معضلة جدّية. فمن جهة تسعى واشنطن إلى عرض «جبهة موحدة»، بالتأكيد قبيل اللقاء بين الرئيسين أوباما وأردوغان. أما أنقرة فترى في المجموعات الكردية منظمات إرهابية، في وقت تراها واشنطن شريكة شرعية. ويتوقع الأتراك من الأميركيين التنازل لهم وعدم الوقوف إلى جانب الأكراد، في وقت يقول البعض في الولايات المتحدة ان واشنطن تحتاج إلى الأكراد، فقط لأن أنقرة تتردّد في الانضمام إلى الصراع ضدّ «داعش».
مهما يكن من أمر، يبدو أنه بعد خمس سنوات ونصف السنة من النزاع العنيف، فإن تسخين العلاقات بين تركيا، روسيا وإيران يمكنه أن يسرع في إيجاد حلّ. فقد فهمت الأطراف أنه في هذه الحرب لن يكون هناك منتصر واحد. فمحور الاسد ـ إيران ـ حزب الله، بمساعدة روسيا، لا يعتزم الذهاب إلى أي مكان. من ناحية «إسرائيل»، يمكن أن يتحقق هنا سيناريو رعب: إيران خلف الحدود، الأسد في القصر في دمشق، روسيا ذات نفوذ متزايد، واشنطن تواصل الانسحاب وتركيا تحقق المكاسب على حساب الأكراد. كل هذا يؤدّي إلى استنتاج واحد فقط: المحور الشيعي بمساعدة روسية يتعزّز، المحور السنّي «المعتدل» بقيادة السعودية يضعف. ليس لهذا الطفل صلّينا، ولكن عندما تتخلّى أميركا طواعية عن نفوذها وتصبح لاعبة أقل أهمية، يكون هذا هو الموجود.
و«داعش»؟ هنا السؤال الكبير. العالم كله رأى كيف فرّ الجهاديون من جرابلس. هل هذا سيدفع الدول المشاركة في القتال في سورية إلى فهم أنّ إسقاط التنظيم مجرّد مسألة إرادة؟
تصبح تركيا لاعباً مهماً على نحو خاص في سورية. فغضب أردوغان تجاه الغرب سرع تقربه من موسكو، طهران وحتى، ومن كان يصدق، دمشق. فقد عوّدتنا تركيا في السنوات الاخيرة على تلاعبات خطيرة، ويخيّل مؤخراً أنها بدأت تعيد من جديد توزيع أوراقها في المنطقة.
العلاقات بين أنقرة وواشنطن، كما أسلفنا، متوترة جداً منذ منتصف تموز. فالسلطات التركية لم تستطب، على أقلّ تقدير، الانتقاد الأميركي الحاد لموجة الاعتقالات والتطهيرات في أعقاب محاولة الانقلاب. في تركيا توقعوا حتى من الأميركيين إحباط أعمال فتح الله غولن، الذي بحسب أنقرة يعمل ضدّ أردوغان من موقع إقامته في بنسلفانيا. وجاءت زيارة بايدن إلى تركيا قبل أسبوع كما يفترض أن تحسّن العلاقات، ولكن من الصعب الحديث عن نجاح كبير.
تتصدّى تركيا اليوم لمصاعب اقتصادية وعزلة اقليمية آخذة في التفاقم. وسبق أن كتبنا غير مرة نقول إن سياسة صفر مواجهات أصبحت في تركيا سياسة صفر صداقات. وهو استنتاج يسهّل علينا فهم مصالحتها مع روسيا ومع «إسرائيل»، وكذا تقرّبها المتجدّد من ايران. لقد اكتشفت أنقرة أنّ العزلة ليست لطيفة. وعندما تقف إلى جانب روسيا وإيران فإن قوتها في الساحة العالمية تكون أكبر بأضعاف.
في موسكو متحمسّون جداً من المصالحة مع تركيا، لا سيما بعدما كان أردوغان هو الذي اعتذر لبوتين عن إسقاط الطائرة الروسية في تشرين الثاني 2015. وتستوعب موسكو وزن تركيا في المنطقة وحقيقة أن ابتعادها عن واشنطن يعزّز فقط السيطرة الروسية في الشرق الأوسط. لا بل أنّ بوتين كان بين الزعماء الأوائل الذي دعا إليه أردوغان بعد محاولة الانقلاب الفاشلة وامتنع عن انتقاد موجة التطهيرات التي أجراها الرئيس التركي.
إيران هي الأخرى جمعت نقاط استحقاق كثيرة في أنقرة منذ 15 تموز. فطهران، الشريك الكامل لنظام الأسد، لم تتوقف عن الإعراب عن تأييدها أردوغان بعد نهاية الأسبوع العاصفة إياها. والأصدقاء الجدد لأردوغان منحوه مجال مناورة جدّياً في سورية، وسمحوا له بأن يعمل في جرابلس من دون تنسيق مع واشنطن. وإن شئتم، فإن جرابلس، تمثل نموذجاً مصغراً لعلاقات القوى. فقد أعربت موسكو عن قلق عميق من دخول المدرّعات التركية إلى الأراضي السورية، ولكنها لم تطلب انسحابها. كما أن طهران هي الأخرى لم تحتجّ كثيراً. كلّ هذا يلمّح إلى أن روسيا وإيران كانتا في سرّ الاجتياح البرّي.
المنتصر الأكبر في الخطوة التركية، في هذه اللحظة على الأقل، هو الرئيس السوري. سواء كنّا نحبه أم لا، فالأسد هو أحد اللاعبين في هذه الحرب، صرّح رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، ويمكن إجراء مفاوضات معه حول تبادل الحكم في الدولة. انتبهوا إلى القسم الأول من هذه الجملة: إجراء مفاوضات، مع الأسد. نعم، مع الأسد إياه الذي طالبت تركيا، حتى وقت أخير مضى، برأسه. في نهاية المطاف فإنّ الرئيس السوري، الذي ضعفت قبضته في شمال دولته جدّاً، يجد في الأتراك شركاء محتملين لتقويض التطلّعات الكردية في تلك المناطق.
إذن، ما الذي تعلّمناه في الايام العشرة الأخيرة؟ إن السيطرة في المجال الجوي في سورية ليست هي ما أدّت إلى الحسم، ويشهد على ذلك الاجتياح البرّي الذي نجح في تخليص بلدة جرابلس من براثن «داعش». إن تهكّم أمم العالم يناطح السحاب عندما يجري الحديث عن سورية إذ إن مَن هو عدو اليوم يمكن أن يكون صديقاً غداً وإن هذه الحرب كان يمكن إنهاؤها قبل وقت طويل جداً. في هذه الاثناء أصبحت سورية مستنقعاً مغرقاً، بالنسبة إلى الدول التي تشارك في القتال وبالنسبة إلى المواطنين.
وبالطبع، يمكن التساؤل إلى أين تسير وجهة تركيا. هذه الدولة المهمة، التي تترنّح بين أوروبا وآسيا، شهدت في غضون بضعة أشهر عمليتين قاسيتين، محاولة انقلاب، اجتياح لسورية ومصالحة مع جيران عدّة ومع روسيا واحدة. الاجتياح هو ضمن أمور أخرى انتقام أردوغان من محاولة الانقلاب ضدّه، والذي يصبح استعراضاً للقوّة. عملياً، تركيا تخشى عدم الاستقرار أكثر من أيّ شيء آخر.
في أنقرة يقدّرون أن اشتداد القتال في سورية لا يساهم في الوضع الداخلي في تركيا. فتطهير خلايا «داعش» داخل تركيا سيؤدّي فقط إلى مزيد من العمليات. وعليه، فإنّ أردوغان يفضّل الهجوم في الأراضي السورية، من دون أن يخفي أن الأكراد أيضاً هم العنوان لقصفه وصواريخه. بعدما أدّت تركيا في سورية دور محبّ إشعال الحرائق، قرّرت الآن ـ بتأخير ما ـ الانضمام إلى قوات إطفاء النار.