من يكذب على شعبه… نتنياهو أم مشعل؟
نارام سرجون
كنت سأفاجأ فعلاً لو أنّ خالد مشعل قال من الدوحة شيئاً تنفصل فيه الثورة عن الثروة، وتخرج من جسده الدماء الفاسدة التي تجري في عروقه فيفصدها بكلام جارح عن الحق والحقيقة والفضل والعرفان… ففي مشعل التصقت قيمة الثورة بالثروة واختلطت حروفهما وتداخلتا وتبادلتا الأنخاب والكؤوس، فجلست الثروة مع الثورة على مائدة واحدة ونامتا في فراش واحد وعلى مخدة واحدة… ولم تستيقظ الثورة من سهرة الأمس حتى أكلت الثروة الثورة كما أكلت أبقار فرعون القبيحة في المنام الأبقار الحسنة المنظر…
وكنت سأضطرب كما يضطرب طبيب أخطأ في تشخيص علة مريض وأعطاه عقاراً خاطئاً لو أنّ مشعلاً بدا شهماً شجاعاً يفي الديون التي في عنقه… لكنني أحمد الله أنّ مشعل لم يخذلني وكنت على صواب منذ أن قلت إنّ دمه فاسد، وإنه راع كذاب… وأحمد الله على أنّ اسماعيل هنية لم يخذلني أيضاً ولم يسدّد طعنة لأيّ كلمة قلتها بحق هذا الرجل الوضيع الرضيع الذي لن تنساه ذاكرة الشرق والعالم في مشهد الذلّ وهو ينحني على ركبتيه كرضيع الناقة يقبل يد قاتل الشعوب العربية… راسبوتين الشرق الرهيب… يوسف القرضاوي… وأثبت هنية أنني كنت على صواب وأنني قرأت جينات خلاياه…
ولكن… وفيما أنا أتابع تصريحات هذين المراوغين كنت أمسك قلبي بيدي خوفاً من أن يحاول أحدهما المرور ولو بسرعة على سورية لقول شيء فيه غزل ما للشعب السوري وجيشه أو للتودّد من القيادة السورية فيخلخلان نظريتي في الدماء الفاسدة… لأنّ مدائح الأوغاد للكرام فيها ذمّ وقدح وانتقاص مثل أن تنال شهادة حسن سلوك وأخلاق من مومس أو وثيقة طهارة من قوّاد… أو أن يمنحك الجاسوس «الاسرائيلي» عزمي بشارة شهادة في الوطنية أو يرسل لك القرضاوي صك غفران لذنوبك… لكن العناية الالهية أكرمتني وأكرمت الشعب السوري في أنّ العار لم يصل الينا… وبأننا نجونا من هذا التلوّث… ومن قبلة يهوذا…
في الحقيقة لست أنتظر من الثائر أن يتحوّل الى ديبلوماسي ولا أن يمارس طقوس المجاملات والمدائح والتدبيج وفرش السجاد الأحمر وإهداء الزوار ربطات العنق وقوارير العطر… ولكن لا يهينني إلا الثائر الذي يخاطب العالم كله وقد نسي أهمّ شيء… وهو أن يخاطب شعبه ويصارح شعبه كما يصارح الابن اباه وأخاه…
الثائر في قضية من نوع القضية الفلسطينية يصارح شعبه بكلّ شيء ومن دون الوقوف بجانب أيّ جدار سياسي ليتقّي اللوم ورصاص النقد والعتاب… ينقل إلى شعبه بصراحة وشفافية كلّ آلام الثورة وأحلامها… ولا يوارب وهو يحكي عن خيبة أمله من انشغال أردوغان مثلاً بحفلات ومهرجانات التنصيب السلجوقية وإصراره على كسر حصار المطارات والموانئ الاسرائيلية في أحلك فترات الحرب… ولا يخفي الثائر خيبة أمله من استمرار استضافة السفير والديبلوماسيين «الاسرائيليين» في تركيا… والثائر يصارح شعبه ومقاتليه بشعوره بالمرارة من ازدياد سفر «الاسرائيليين» الى تركيا التي كانت ملاذاً للهاربين من الحرب… لماذا لا يقول خالد مشعل لشعبه إنّ الطائرات التركية وسفن الركاب كانت تعود محملة بالاسرائيليين الى استانبول بالآلاف في جسر جوي وبحري معاكس للجسر الجوي الذي تلا حرب تشرين عام 73… ففي عام 73 مدّ الاميركيون جسراً جوياً لإنقاذ «إسرائيل» من الانهيار وحقنوها بالسلاح والذخيرة… وفي عام 2014 مدّت تركيا جسراً جوياً وبحرياً الى خارج «إسرائيل» لإخلاء المذعورين «الاسرائيليين» نحو تركيا لاستضافتهم ريثما تنتهي الحرب، والذين شوهد الآلاف منهم يستجمّون في ظلال قصر يلدز، بانتظار أن ينتهي لواء غولاني وطائرات «إسرائيل» – التي تدربت بالتنسيق مع قوات أردوغان في أجواء تركيا – من مهمة تدمير غزة ولتتفنّن القاذفات في إظهار براعتها في فنون قصف المدن والإبادة… غير أنّ أردوغان كان يستشيط ويثير الغبار لأنّ معبر رفح لم يفتح كما فعل هو وفتح معبر استانبول لـ»الإسرائيليين» الهاربين من صواريخ غزة… ان مشعل هنا كان يكذب على شعبه… وليس نتنياهو…
لم يقل مشعل لشعبه الفلسطيني كيف انّ العربان الذين شمّروا عن السواعد في قطر والسعودية لتدمير شعوب جمهوريات عربية كاملة بأطنان الذهب والمال والسلاح لم يقدموا شيئاً لفلسطين في محنتها في غزة سوى نصف ورقة مكتوبة بحبر رديء وكلام رديء… ولم تقم الجامعة العربية بدعوة زعماء العرب لطلب حظر جوي… ولم يقل مشعل لشعبه إنه مذهول من تلكؤ الإسلاميين في نصرة غزة… ومن استحالة توجه جهادي واحد مهاجر الى غزة… ولم يقل لهم إنه مذهول من أنّ بعض الإسلاميين داسوا على علم فلسطين في شوارع الثورة السورية في ذروة الحرب على غزة مثلما كان المستوطنون يفعلون بالضبط في ذروة حنقهم على غزة… ولم يقل لشعبه إنّ «الثوار» السوريين خوّنوا الغزاويين لأنهم قاتلوا… ماذا كان سيكلف التنظيمات الدينية في سورية أو الاردن أن تهاجر الى حدود فلسطين للردّ على «إسرائيل»؟ صدقوني بعض التنظيمات الإسلامية تفصلها عن ارض فلسطين مسافة 40 دقيقة سيراً على الأقدام إذا سارت من الحدود السورية أو الأردنية… لكن الإسلاميين يطيرون من استراليا عشرين ساعة للوصول الى سورية للجهاد ضدّ شعبها وليس الى غزة… ان مشعل كان يكذب على شعبه… وليس نتنياهو…
وفي قلب محرقة غزة لم نفاجأ حتى من سرقة الصواريخ السورية والإيرانية علنا ونسبها إلى مهرّبي الصحراء وثوار ليبيا… فقد خرج أسامة حمدان ذيل مشعل في لبنان في أتون المعركة بتفسير مفاده أنّ صواريخ غزة ليست منة من أحد بل هي صناعة محلية… وأنّ صواريخ غراد هي ما أهداها ثوار ليبيا إلى غزة… والبعض من فريقه همس انّ محمد مرسي هو من هرّب الصواريخ خلال سنة من حكمه ومن معبر رفح! رغم انّ القاصي والداني كان يتمنى على حمدان أن يسأله: أين تمّت تجربة الصواريخ ومدياتها التي صنعتها غزة؟؟ لأنّ السيد احمد جبريل كشف أنّ عمليات تطوير الصواريخ تمّت في الصحراء السورية حيث تمّت تجربتها وتحديد مدياتها وأوزان رؤوسها المتفجرة… بسبب وجود المدى المناسب لإطلاق الصواريخ التجريبية في الصحراء السورية… ومن هناك نقلت التقنية ونتائج الاختبارات وقطع المصانع والورشات الى غزة ونقلت معها تكنولوجيا صناعة الصواريح لتتجاوز عقدة تهريب السلاح التي تترصّدها كلّ مخابرات المنطقة بما فيها المخابرات العربية…
ربما يقول لنا أسامة حمدان اليوم إنّ التجربة تمّت في صحراء النقب أو في سيناء أو قرب قاعدة العيديد او في صحراء ليبيا… أو في شرق الأناضول عند قاعدة انجرليك… وربما في الأنبار عند ابي بكر البغدادي… وربما في الربع الخالي «لأبو متعب» بإشراف العرعور… أو صحراء نيفادا باشراف جون ماكين! لكن مشعل كان يكذب على شعبه… وليس نتنياهو. ..
نتنياهو لم يكذب على شعبه يا مشعل بل أنت من كذبت وتكذب على شعبك… وأنت الذي لا تصارح شعبك… نتنياهو مجرم ولكنه لا يقول لشعبه إن السعودية وقفت ضدّه ولا قطر ولا تركيا، بل ان الرجل صارح شعبه بأنّ علاقة «إسرائيل» بالسعودية ودول الاعتدال ومنها قطر تعززت في حرب غزة كثيراً… وبأنّ تركيا لا تنوي فك علاقتها بـ»إسرائيل» ولا الضغط عليها… وبأنّ إيران وسورية كانت لهما اليد الطولى في فشل الهجوم على غزة… وبأنّ حسن نصر الله يتابع الحرب لحظة بلحظة وبكلّ تفاصيلها لأنه وعد انه لن يترك غزة تخسر الحرب وهذا معناه أنه في لحظة حاسمة فسيدخل الحرب… ولكن مشعل كذب على شعبه ولا يزال يكذب… وليس نتنياهو من كان يكذب…
الشعب الفلسطيني يستحق أن تكون له لجنة فينوغراد تحقق في كذب القيادات «السياحية» على القوى الميدانية المقاتلة… الجمهور الفلسطيني من حقه أن يسأل قيادته عن الخيارات السياسية السابقة لقيادة حماس التي قامت بها، وانْ كانت نفعته في حرب غزة من العلاقة مع تركيا التي تركتهم لقدرهم الى النوم في سرير «إسرائيل» في الخليج المحتلّ… ومن تسليم الأوراق الى أردوغان الى الرحيل عن دمشق الى مناصرة القتلة الإرهابيين في سورية ورفع علم الانتداب على الشعب السوري…
أتمنى من كلّ قلبي أن يكون هذا الموقف كافياً للأصدقاء والحلفاء في الجمهورية الإسلامية الإيرانية للتوقف عن المراهنة على من تعوّد الطعن في الظهر… لأنه سيطعن إيران قريباً… فالرجل لم يعد ثائراً ولكنه صاحب ثروة من العلاقات الشخصية والعقود التجارية التي لن يفرّط بها ولو وضعت السكين على عنق كلّ فلسطين وإيران وسورية وحزب الله… وهو في مرحلة أقرب ما يكون الى الإقامة الجبرية في قطر بسبب تعلّقه بميزات النعيم والمال… علاوة على أنه وقع في الفخ الذي وقع فيه الراحل ياسر عرفات… فالشهيد عرفات حوصر في المقاطعة بسبب خيارات خاطئة وتخلّى عن أوراق قوة كانت لديه… ولم تكن لديه القدرة على الخروج من سجنه… ومشعل ليس مثل ياسر عرفات طبعاً لأنّ عرفات حوصر في وطنه… أما مشعل فانه محاصر اليوم في جزيرة تبعد عن وطنه آلاف الأميال وهو لا يقدر على الخروج من قصره… وهو محاصر بسبب إغلاق كلّ الموانئ التي كانت مفتوحة له ولرحلاته الثورية… فمصر ودّعته الى الأبد… والأردن لا يجرؤ على ان يسمح له بالمرور لشرب فنجان قهوة… وسورية كسرت ألف جرة بعد رحيله وأغلقت ملفه وملف حماس بالشمع الأحمر… وبالطبع هو غير قادر على إحراج تركيا بالنزول ضيفا عليها وهي التي أبلغته سلفاً أنها سترفض قطعاً اقامته فيها لاعتبارات «ناتوية» لا تخفى على أحد…
البعض يقول إنّ ايران وقعت في فخ خالد مشعل وجماعته من جديد وهو يبيع من وقف معه من دون خجل… وهناك من يرسم لها فخاً آخر في تركيا ومفاوضات الملف النووي وعليها الاستفادة من درس خالد مشعل في الكذب… فهناك من يقنع إيران بأنّ تركيا يمكن ان تتغيّر وأنّ الصبر معها مجدٍ، وأنّ الأتراك سيستوعبون الدرس… ولكن الأتراك تبيّن أن كلام ليلهم يمحوه داعشهم… وأنهم يناورون بداعش وغيرها حتى يتمكنوا من فتح ثغرة في جدار المقاومة… وهناك من يقول إن هناك من يستدرج إيران إلى مفاوضات ماراثونية لحلّ ملفها النووي ويستمهلها في إقرار الاتفاق… لكنه في نفس الوقت يعبث بأمن إيران وأمن حلفائها بانتظار أن يحدث خلل ما في جدار الصدّ…
الحقيقة لم يفاجئني مشعل بل انّ ما فاجأني هو أن لا يتوقع الإيرانيون عضة هذا الثعبان، لأنه بعد كلّ الرعاية التي قدّمتها له إيران اختصر كلّ شيء بعبارة شكراً لتضامنها … مثلها مثل موقف مدغشقر التي تضامنت معه… ولا أدري هل الديبلوماسيون الإيرانيون كانوا لا يعلمون أنّ مشعل ما هو الا سفير تركيا في فلسطين… وثعبانها!
قديما قالت العرب مثلاً شهيراً للدلالة على الحماقة، وهو أن فلاناً أحمق من جحا لأنّ جحا ضُرب به المثل بحماقته… واليوم يستحق خالد مشعل بعد العضة الثانية للمقاومة وإيران ولسعته لشعبه أن يُضرب المثل بمشعل للخيانة والكذب… فيُقال: فلان أخوَن من مشعل… أو فلان أكذب من مشعل… ولكن لا يوجد هذا الفلان… ولن يوجد… وسيبقى نتنياهو العدو الصادق مع شعبه.. ومشعل الثائر الذي كذب على شعبه…!!