التدخل الإنساني… عصا الغرب الغليظة
بشار سليمان
ظهر مفهوم التدخل الإنساني في العصور الوسطى تدريجياً نتيجة للاضطهاد الديني الذي واكب ظهور المذهب البروتستانتي في أوروبا وانتشار النزعة القومية في القرن التاسع عشر، مما أدى إلى تفجّر مشكلة الأقليات في أوروبا، والتي دفعت الدول الكبرى للتدخل عسكرياً وسياسياً في شؤون الدول الأخرى لزيادة نفوذها بحجة حماية الأقليات.
أما في العصر الحديث فقد ظهر هذا المفهوم تحت مسمّى التدخل الإنساني بشكل واضح في الحربين العالميتين الأولى والثانية من خلال ميثاق الأمم المتحدة وتتويجه بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 والعهد الدولي الجديد للحقوق المدنية 1977، بالإضافة إلى العديد من الاتفاقات الدولية ذات الصلة، ورويداً رويداً بدأ مفهوم التدخل الإنساني يشمل كلّ الحالات التي يمكن أن تتسلّل إليها الدول الكبرى للسيطرة على باقي الدول كالاضطهاد والتنكيل وجرائم الإبادة الجماعية التي أصبحت تستخدم من قبل الغرب كذرائع لتدخله في شؤونها حسب ما تمليه مصالحه الاستراتيجية.
وعلى الرغم من أنّ مفهوم التدخل الإنساني ليس بالمصطلح الجديد، إلا أنه أصبح أكثر بروزاً وخطورة وأهمية عقب انتهاء الحرب الباردة وتفرّد الولايات المتحدة بالعالم وإعلان الرئيس الأميركي جورج بوش الأب ولادة النظام العالمي الجديد، وسعي الدول الغربية إلى نشر القيم والثقافة الغربية في العالم، متذرّعة بحجة التدخل الدولي الإنساني لحماية الأقليات التي برزت على السطح عقب تشظي المنظومة الاشتراكية، وتفشي النزاعات الطائفية والدينية والعرقية، وإنْ كان التدخل الإنساني في الغالب يتمّ تحت غطاء الأمم المتحدة وتفويض من مجلس الأمن ويكتسب في الكثير من الأحيان صبغة عسكرية، إلا أنه يتعارض في أغلب جوانبه مع مفاهيم وأسس ثابتة في القانون الدولي والعلاقات الدولية كالسيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، أيّ أنّ التدخل الدولي الإنساني، أو التدخل لاعتبارات إنسانية جاءت كأحد القيود التي تحول دون ممارسة الدولة سيادتها الكاملة كما حدّدها القانون الدولي، مما أدى إلى تراجع مبدأ السيادة المطلقة وتعويم مبدأ السيادة النسبية على حسابها وتعرّض المبادئ التقليدية والأساسية للقانون الدولي للخطر والتأويل المزدوج.
وعلى الرغم من أنّ هناك الكثير من الانتهاكات الإنسانية قد حدثت حول العالم، وكان من المفترض أن يقوم المجتمع الدولي بالتدخل، إلا أنه لم يحرّك ساكناً بل اكتفى بتمرير المساعدات الإنسانية عبر منظماته الدولية العاملة، وهذا يعود إلى طبيعة التوازنات الدولية القائمة والأهمية الاستراتيجية والسياسية لمشاريع الدول الاستعمارية الكبرى التي تتعلق بطبيعة منطقة النزاع، مع الأخذ بعين الاعتبار توزّع مناطق النفوذ المتفق عليها دولياً، وما الإرهاب الصهيوني في فلسطين إلا مثال حي مستمر على تسييس مبدأ التدخل الإنساني لحماية الشعوب من الاضطهاد والعبودية.
وعلى العكس من ذلك فقد قامت الدول الاستعمارية الكبرى بالتدخل العسكري تحت غطاء إنساني في الأماكن التي اعتبرتها الولايات المتحدة وحلفاؤها انتهاكات لحقوق الإنسان كتدخلها في كوسوفو وهاييتي والبوسنة والهرسك والعراق وليبيا، واستخدام ما رأته انتهاكات لحقوق الإنسان ذريعة للتدخل ولإسقاط الأنظمة القائمة في تلك الدول، والإتيان بأنظمة موالية للغرب لاستمرار الهيمنة الإمبريالية على تلك الدول، بعد تحوّلها إلى دول فاشلة بالمعنى الدولي.
وعلى الرغم من أنّ المؤيدون لمشروعية التدخل الإنساني بصيغته العسكرية يتسلّحون بحجة أنه لا يتعارض مع الفقرة الرابعة من ميثاق الأمم المتحدة حظر استعمال القوة أو التهديد باستعمالها على أنه يحق للدول منفردة كانت أو مجتمعة استخدام القوة ضدّ دولة أخرى يعتبرون أنها تنتهك القانون الدولي، على ألا يمسّ هذا التدخل سيادتها الإقليمية أو استقلالها السياسي، إلا أنه مخالف لكلّ قواعد القانون الدولي على اعتبار أنّ التدخل العسكري من المستحيل أن يتمّ بدون المسّ بالسيادة الوطنية للدولة، بالإضافة إلى اعتبار السيادة الوطنية ليست مفهوماً قانونياً مجرّداً بل مفهوم متغيّر حسب واقع البيئة الدولية، والتي تعدّ العولمة والقطب الواحد أهمّ محدّداتها، بالإضافة إلى العمل على تراجع قدرة الأمم المتحدة على حفظ السلم والأمن الدوليّين حسب رؤية المؤيدبن للتدخل ، بينما ينطلق المعارضون من المادة الثامنة من ميثاق الأمم المتحدة التي تنصّ على مبدأ المساواه في السيادة بين الدول ومنع استخدام القوة أو التهديد باستخدامها إلا في حالة الدفاع الشرعي عن النفس الماده 51 كما أنّ الرافضين لمبدأ التدخل العسكري لاعتبارات إنسانية من قبل دولة أو عدة دول مجتمعة أدى إلى سقوط أنظمه حكم دستورية كما تمّ الإشارة إليه سابقاً.
وبعدما بدأ النظام الدولي الجديد بالتحوّل تدريجياً لصالح عالم متعدّد الأقطاب، أصبح التدخل الإنساني مصحوباً غالباً بالتدخل العسكري عاكساً الصراعات الدولية والإقليمية بين الدول الكبرى حول مناطق نفوذ معينة خاصة، بعد أن بدأت بعض الدول بالتمدّد سياسياً واقتصادياً، مما أوجب فضاءات نفوذ استراتيجية تحتوي النهوض المتسارع لها كالصين وروسيا وألمانيا، أو المحافظة على قواعدها الاستراتيجية التي كسبتها إبان انتهاء الحقبة الشيوعية، كالولايات المتحدة وبريطانيا، خاصة بعد هيمنة الدول الغربية على مجلس الأمن والأمم المتحدة بكافة هيئاتها، مما أعطى الغرب مجالاً واسعاً لتكييف مبدأ التدخل الإنساني لتطبيق سياساته الاستعمارية ومخططاته في الهيمنة على مقدّرات الدول تحت مظلة القانون الدولي حيث تبدأ بالعمل على التشهير بالدولة المستهدفة في ميدان حقوق الإنسان ونشر معلومات مركّزة عن أوضاع حقوق الإنسان لفئات سكانية محدّدة فيها بصورة مغلوطة، وتعهّد إدارة هذا النوع من الصراعات إلى المنظمات غير الحكومية الدولية والمسيّسة سابقاً على الأغلب والتي تعتمد تقاريرها وتقدم مشاريع قرارات ضدّ الدولة المستهدفة، ويتمّ التركيز على هذا الهدف بغية إثارة اهتمام الرأي العام العالمي وجذب اهتمامه، مما يخلق جواً من التوتر في علاقة هذه الدولة ببقية الدول وفي علاقة الدولة نفسها بالأقليات ذات الصلة بالموضوع، مما يؤدّي إلى تصاعد الأزمات وصولاً إلى الحرب الأهلية، الأمر الذي يفسح المجال أمام الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى للتدخل تحت مسوغ حقوق الإنسان وحماية الأقليات مستخدمين الشرعية الدولية التي توفرها قرارات الأمم المتحدة التي تحث على ضرورة ممارسة الأقليات لحقها في تقرير المصير بإنشاء كيان خاص يقتطع من السيادة الوطنية للدول مع استعمالها لحلف الناتو قوتها الضاربة ، وهذه أخطر آلية تستخدم بها حقوق الإنسان وحماية الأقليات، إنها بصورة أخرى إعادة هيمنة الدول الكبرى على مجالها الحيوي القديم من خلال استخدام وسائل جديدة، ومن أهمّ الأمثلة التي تجسّد هذا التخطيط الامبريالي كان في يوغوسلافيا السابقة، حيث قام حلف الناتو بإسقاط الرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوزوفيتش من خلال حرب كوسوفو التي قام بها الحلف بحجة الفصل بين الصرب وبين ألبان كوسوفو عام 1999، وفي العراق قام الحلف بإسقاط صدام حسين عام 2003 بحجة أسلحة الدمار الشامل، وعلاقته مع تنظيم «القاعدة»، وفي ليبيا أيضاً كان لحلف الأطلسي بصمته بحجة حماية الشعب الليبي ضمن ما عرف بمصطلح «الربيع العربي»، ثمّ محاولة القيام باللعبة ذاتها مع سوريةن إلا أنّ التماسك الداخلي غي سورية والتوازنات السياسية والدولية المستجدة، قد أحبطت ما رُسم لدمشق، بل حتى أصبح التدخل الإنساني العسكري عبئاً على من دعا إليه ودعمه وحارب من أجله في أروقه المبنى الزجاجي في نيويورك، ولم يكن أمام الغرب إلا اختلاق الأسباب التي يجمع الغرب عليها مع باقي المجتمع الدولي للتحرّك ولاختلاق الذرائع الإنسانية والسياسية للتدخل العسكري ولعودة الذراع الأميركية إلى المنطقة، فكان تنظيما «جبهة النصرة» و»داعش» الإرهابيين وجعلت الانتهاكات الإرهابية على المدنيين في الموصل والرقة والتنكيل بالأقليات في سورية والعراق سبباً جامعاً لأعضاء مجلس الأمن لاستصدار القرار 2170 تحت الفصل السابع ومسارعة بغداد ودمشق إلى الترحيب بهذا القرار، مع التأكيد خصوصاً من قبل الحكومة السورية، على أنّ القبول بالتعاون الأمني والعسكري مع أيّ حلف ينشأ لمحاربة الإرهاب يجب أن يكون تحت غطاء مجلس الأمن، وبشكل لا يتعارض مع سيادة الدولة على أرضها وسمائها…
إذن… يسعى الغرب الاستعماري للعودة إلى التدخل في المنطقة من باب الداعشية تحت المظلة الأممية، إلا أنّ هذا لا يلغي حقيقة أنّ «داعش» و»النصرة ليست سوى أداة جاهزة ووجبة دسمة للغرب الامبريالي للعودة إلى المشرق العربي من الباب الأممي الواسع.