في ذكرى «أوسلو» المشؤوم
راسم عبيدات
لم يكن اتفاق «أوسلو» المشؤوم، سوى تعبير عن هزيمة فلسطينية وعربية واختلال كبير في ميزان القوى ونتاج تسرّع البعض في الساحة الفلسطينية، لإستثمار سياسي متسرّع أيضاً، لمنجزات انتفاضة الحجر الفلسطيني 1987 ـ 1988. فـ»أوسلو» فكك المشروع والقضية والحقوق الوطنية الفلسطينية، وقسّم الأرض والشعب جغرافياً ومجتمعياً ووطنياً، وأجّل قضايا القدس والأسرى واللاجئين، التي ندفع ثمنها حتى الآن، فالقدس تتعرّض لعملية تهويد وأسرلة غير مسبوقتين، حيث سياسة التطهير العرقي والتهجير القسري بحق المقدسيين مستمرة ومتواصلة. والأسرى من الداخل الفلسطيني 48 ومعهم أسرى القدس، الذين تخلى عنهم المفاوض الفلسطيني طواعية، العشرات منهم دخلوا موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية.
ورغم كلّ مساوئ «أوسلو» ومثالبه، قام الاحتلال بسحقه وتدميره تحت جنازير دباباته، عندما اقتحم الضفة الغربية عام 2002 وحاصر الرئيس الراحل أبا عمار في المقاطعة في رام الله، وأنهى التقسيم الجغرافي لمناطق الف وباء وجيم ، بحيث يستطيع الجيش «الإسرائيلي» استباحتها كاملة، من دون أي فروقات للتصنيفات بينها، أي أنه أخضعها جميعها للسيطرة «الإسرائيلية» الأمنية المباشرة. ورغم كلّ ذلك، استمرّ البعض الفلسطيني يعاند الحقائق على قاعدة المأثور الشعبي «عنزة ولو طارت»، بأنّ اتفاق «أوسلو» جيّد للشعب الفلسطيني، ولا يمكن أن يكون أكثر مما كان. هذا الإتفاق الذي وصفه ثعلب السياسة «الإسرائيلية»، الذي يصارع الآن، الموت شمعون بيرس، بأنه «النصر الثاني» لدولة الإحتلال، بعد النكبة التي حلّت بشعبنا الفلسطيني عام 1948.
من بعد 23 عاماً على مرور «أوسلو»، وجدنا أنّ عملية نهب وتقطيع أوصال أرضنا الفلسطينية مستمرة ومتواصلة. والاحتلال يكثف ويزيد من وتائر استيطانه في القدس والضفة الغربية، بشكل جنوني. وتتصاعد الدعوات من قبل الكثير من الأحزاب «الإسرائيلية» اليمينية المتطرفة، المؤتلفة في الحكومة «الإسرائيلية» الحالية «إسرائيل بيتنا» و«البيت اليهودي» و«الليكود»، إلى ضمّ مناطق سي من الضفة الغربية، التي تشكل 60 في المئة من مساحتها، الى دولة الاحتلال، قائلة بأنّ حلّ الدولتين لم يعد ممكناً. وبلغة نتنياهو، رئيس وزراء حكومة الاحتلال، لا مكان لدولة فلسطينية غرب نهر الأردن، لعشرين سنة مقبلة. ونتنياهو صاحب مشروع سياسي، تشاطره وتتفق معه حوله الكثير من الأحزاب والمركبات الصهيونية الحزبية والمجتمعية، الا وهو شرعنة وتأبيد الاحتلال، مقابل تحسين شروط وظروف حياة الفلسطينيين الإقتصادية تحت الاحتلال، بتمويل من الصناديق العربية والدولية. ايّ مقايضة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني برشاوِ ومشاريع اقتصادية.
رغم حجم الكارثة التي حلّت بنا كشعب فلسطيني من «أوسلو» وما نتج عنه من إفرازات سلطة «منزوعة الدسم»، لا سيطرة لها ليس على الحدود والمعابر والجو والبحر فقط، بل حتى على مقرّ إقامتها. وهي لا تستطيع الحركة والتنقل من قمة هرمها السياسي حتى أصغر رجل شرطة فيها، من دون إذن وتصريح من الإحتلال. والحال في غزة ليس بأفضل كثيراً، وإنْ كانت هناك سيطرة محدودة للسلطة فيها، إلا أنّ الاحتلال أيضاً، يتحكّم بكلّ مخرجات ومدخلات حياتنا.
رغم كلّ هذا التوصيف، استمرينا في التجريب والمقامرة بحقوقنا، وخوض المفاوضات العبثية والماراثونية لمدة ثلاثة وعشرين عاماً، حيث جرّبنا المفاوضات، بكلّ أشكالها، مفاوضات مباشرة وغير مباشرة، علنية وسرية، عن قرب وعن بعد. حتى أنّ البعض عندنا ألف كتبا في المفاوضات، كعلم من علوم السياسة وساحة من ساحات الإشتباك السياسي، ولتصبح الحياة مفاوضات. ولكن كلّ ذلك لم يقرّبنا من حقوقنا المشروعة بوصة واحدة، بل أصبح مشروعنا الوطني يدمّر، وأوضاعنا الداخلية التي أضافت إلى حالة ضعفنا ضعفاً جديداً، حيث حدث الإنقسام الفلسطيني في تموز 2007، لكي ننشطر، بالإضافة للانشطار الجغرافي، مؤسساتياً وجغرافياً. ودخلنا في حروب مناكفات وتحريض داخلي مقيت بين طرفي الإنقسام: «فتح» و«حماس»، استعملت فيه كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة، لتصل الأمور حدّ التخوين والتفريط والتكفير والتشكيك والإعتقالات السياسية المتبادلة وتغليب للمصالح الفئوية والحزبية على المصالح العليا للشعب الفلسطيني واقتتال على سلطة «منزوعة الدسم»، وعلى رواتب ووظائف. ولم تنجح كلّ المبادرات واللقاءات والإتفاقيات التي رعتها دول عربية وقوى فلسطينية، حتى جرت تدخلات دولية وإقليمية في هذا الشأن، في وأد هذا الإنقسام المدمّر، بل وجدنا أن قوى وفئات نمت على هامش الإنقسام المدمر، أصبحت تحكمها مصالحها وارتباطاتها ومحاورها وامتداداتها العربية والإقليمية، معنية بإستمرار الإنقسام وحالة الضعف الفلسطيني، خدمة لمصالحها ولأجندات ومشاريع مشبوهة. ولكي يصبح الإنقسام بنتائجه وتبعاته كارثة جديدة على شعبنا ككارثة «أوسلو»، حيث أن الانتخابات البلدية والمحلية، التي كان من المقرّر إجراؤها في الثامن من الشهر المقبل، تأجّلت، أو هي قيد الإلغاء، السبب الرئيسي في إلغائها يحمل بصمات سياسية وتدخلات «إسرائيلية» وعربية، وليس التذكر بأنّ السلطة في غزة غير شرعية، وبالتالي، الجوانب القانونية والإدارية من محاكم ولجان اشراف وغيرها غير شرعية.
في الذكرى الثالثة والعشرين لإتفاقية «أوسلو»، التي بفعل عوامل ضعفنا الذاتية، وانهيار الحالة العربية ودخولها في همومها القِطرية وحروب التدمير الذاتي والحروب المذهبية والطائفية، وتعطل الإرادة الدولية المشتبكة أقطابها الرئيسية روسيا وأميركا، ومروحة تحالفاتها الدولية والإقليمية والعربية من أوكرانيا وحتى اليمن، وتبدّل الأولويات وتراجع الإهتمام بقضيتنا الفلسطينية دولياً وعربياً، لم ننجح في رسم استراتيجية فلسطينية موحدة، استراتيجية تنهي الانقسام وتستعيد وحدتنا الوطنية، لكي نتمكن من الصمود والدفاع عن وجودنا وحقوقنا وثوابتنا وقضيتنا.
ولذلك نسأل: ألم يحن الوقت لكي تنضج قياداتنا، وتدرك بأن استمرارنا في إدارة الصراع مع المحتلّ بهذه الطريقة البائسة، وكذلك إدارة أوضاعنا الداخلية بطريقة القيادة المهلمة و»الجهبذية» التي تفكر عن شعبها؟ تلك الطريقة التي تعبّر عن أننا نستخدم الجماهير في مشاريعنا وصراعاتنا، ولا نشركها لا في القرار ولا القيادة، ولا حتى التقرير في مصيرها وشؤونها، سيدفع بهذه الجماهير نحو المزيد من اليأس والإحباط وفقدان الثقة بقيادات وبقوى سياسية وحزبية لا يعنيها سوى مصالحها ومكتسباتها وإمتيازاتها…؟
نعم، بعد ثلاثة وعشرين عاماً على «أوسلو» المشؤوم، نبتعد كثيراً عن تحقيق حقوقنا الوطنية المشروعة. ونزداد ضعفاً على ضعف بفعل إنقسامنا، وتكلس وتنمط وشيخوخة الكثير من قياداتنا، التي كفت عن الإبداع والإنتاج في ميادين القيادة والتجديد والسياسة والثقافة والفكر.
Quds.45 gmail.com