المخرجة النمسوية أوتا باور لـ«البناء»: الحبّ يجب أن يكون قوياً… وأنا أنحاز إلى القوّة!

حاورها في النمسا: طلال مرتضى

أسميتها «زنوبيا القارة العجوز». امرأة لسانها السيف الأصدق إنباءً من الكتب، في قول الحق لا تخشى لومَ لائم، الإنسانية دينها ودولتها.

حينما تحطّ الرحال وفريقها في دولة ما، يتحسّس البعض رؤوسهم: «أوتا باور هنا؟!».

هذا يعني أنّها أتت لتعرّي تقصير الحكومات.

المخرجة والأديبة المسرحية النمسوية أوتا باور في ضيافة منبر «البناء» وجهاً لوجه.

أوتا پاور هايدر… من أنتِ؟ رأيتكِ على خشبة المسرح لبؤة متوثّبة، متأهبة وكأن خطراً ما يودّ دهم عرينها. وحين التقيتكِ على هامش الحوار كنتِ الأُنثى المثقفة، والشاعرة العاشقة! شخصيتان متناقضتان تماماً… أيهما أنتِ؟

ـ أنا الاثنتان معاً، ومزيجٌ من الشخصيتين. أليست الثنائيات المتضادة

تتجاذبنا؟ الحياة والموت، الحبّ والكره، الأسود والأبيض واختلاف الفصول؟!

أنا المرأة الشاعرة الحالمة حيناً، واللبؤة الشرسة في أحياناً أخرى.

أنا لا أعرف الكراهية بوجه عام، وأتعامل بودٍّ مع الآخرين، وحتى مع الأشياء أنا أتعامل بحبّ وإيجابية. وحينما يتعلق الأمر بالدفاع عن القضايا الإنسانية وحرّية الرأي والمعتقد، فالأمر هنا يتطلّب منّي شجاعةً ومواقف حاسمة. لذا أجدني أخوض المعارك بشراسةِ المؤمن بالقضية والهدف.

هكذا إذن، أنا المرأة الحانية الحالمة والمقاتلة المناضلة في آن.

في البحر مدّ وجزر، في السنة شتاء وصيف، في الحياة حياة وموت، الحبّ أيضاً يجب أن يكون قوياً، من هنا أنا أنحاز إلى القوة.

وبشكلٍ عام، حلّ جميع القضايا ممكن بالحبّ. لأنه يتوافق مع الطبيعة البشرية. فالحب مطلب كلّ إنسان. بصرف النظر عن عمره وثقافته، أو دينه ومعتقده.

الحبّ هو في الأولوية. الحب يعني الحياة.

من داخل نصّ العرض المسرحيّ «أنقذني Rescue me»: «ها أنتم تتنفسّون، تفكيركُم حُرّ، تجلسون في العتمة وتنتظرون أشكالاً من المُتع، هنا لن تشاهدوا عرضاً مسرحياً، هنا سوف لن نلعب…»… بهذه الكلمات توَّجهَ أبطال مسرحيتكِ مخاطبين الحضور، لماذا جعلتِ منهم شركاء في لعبتك؟

ـ اللجوء ليست قضية طارئة، إنما هي أزلية، فمنذ آدم وحواء كان اللجوء الأول. ثم بدأ يتكرّر، فرأيناه يحصل للأكراد والأرمن، الصربيين والكرواتيين… واليوم نشهد حالة اللجوء السورية. وهكذا، تستمر دائماً قصص اللجوء نحو الأسوأ، ولا أحد يقوم بأيّ عملٍ إزاء ذلك. بل يقف الجميع مكتوفي الأيدي، متفرّجين.

نحن نعيش اليوم أسوأ حالات اللجوء. وفي الوقت ذاته نعيش أسوأ ردود الفعل. في السابق مثلاً، لم يكن العالم مُطّلعاً أو متابعاً لما يحصل من المآسي. أما اليوم، فوسائل الاتصال متعدّدة وسريعة، والمتابعة بصورة مباشرة لحالات اللجوء المؤلمة أصبحت متاحة أمام الجميع.

وعلى الرغم من ذلك، إنّ قضية اللاجئين لا تحظى بالاهتمام المنشود. هنالك حالات من اللامبالاة وإدارة الظهر لهذه المأساة. وأنا أجد أن هذا الأمر سيئٌ جداً. فالجميع يتابعون عبر الإنترنت هذه الكوارث الإنسانية كلّها، لكنهم لا يفعلون شيئاً مؤثراً وحقيقياً، بل يكتفون بالتفرّج وكأنهم في صالة عرض.

ما يحصل ليس مسرحية، واللاجئون ليسوا ممثلين يؤدّون ادواراً. لذا نحن مطالبون، وكلٌ بحسب موقعه ودوره، بموقف جادّ وحقيقيّ. لنقول: لا لما يحصل، ونطالب بتحقيق العدالة للجميع.

أنا لا يمكنني ان أتجاهل ما يحصل في العالم من حولي. وما يحدث في سورية من موت يعنيني، لأنني أعيش في هذا العالم، والمفروض أنه يعني الجميع. نحن بشر، ونعيش في وحدة عالم متكاملة.

نعم، ما يحدث في العالم يعني الكلّ. نحن في أوروبا نملك الكثير، نملك كلّ شيء ولا يشكّل عدد المهاجرين إلى بلادنا قسراً أو اللاجئين عقبةً تهدّد الأمن الغذائي.

العالم واحد، ويملك ما يكفي للعيش برخاء، لكن ذلك لا يحدث، فأميركا وأوروبا جزء من هذا العالم وهما غنيتان، وفي الوقت نفسه، نجد آسيا وأفريقيا وجنوب أميركا، دولاً تعاني من الفقر.

لا يمكن القول إنه لا ذنب لنا بما يحصل في سورية من قتل وتهجير. لست مؤرِّخة لكنني أعتقد أنه لم يحدث أبداً في التاريخ أن ما يقارب نصف شعب، فرّوا من البلد لأن الحياة أصبحت جحيماً «بسبب الحكم»!، لم يفرّ هذا العدد الكبير من أجل حياةً أفضل، بل هرباً من الموت. إنّه الموت الذي أتى إلى سورية من الخارج. لا أحد يريد الهجرة من أجل الهجرة، بل إنه الموت الذي يهدّد الجميع بمن فيهم الأطفال. الموت الذي يحدث أمام مرأى الأطفال بكل وحشية.

إذن، لا أحد يترك وطنه ولغته وعائلته ومقابر العائلة لأنه يعتقد مثلاً أن ثمة حياة أفضل في أيّ بلدٍ آخر. بل لأنه يريد الحياة والنجاة له ولأطفاله. لا أحد يهاجر أو يختار اللجوء طوعاً كي يأكل «شنتزل »!

أنا إنسانة أوّلاً، وأنتمي إلى هذا العالم، ثم أنّي أوروبية فنمسوية ومن النمسا العليا، وأخيراً أنا من قرية صغيرة، من هنا، ولهذا السبب وددت ُمخاطبة الجمهور مباشرةً لأنني أعتقد أن الجميع معنيون بما يحدث في العالم. لذا هم أيضاً معنيون بما يحدث في سورية.

في الموسم الفائت، عرضتِ «الحرب المتعبة kriegsmude» لبمناسبة مرور سبعين سنة على الحرب العالمية الثانية، حيث تطرّقتِ إلى معاناة اللجوء والشتات إبان تلك الحرب. في العرض الحالي تغيّرت وجوه اللاجئين وهوياتهم، ما أوجه الشبه بينهم؟

ـ الحرب هي السبب الأوّل، لفتني أن أوروبا تحتفلُ بمناسبة مرور سبعين سنة على انتهاء الحرب العالمية الثانية. وأنا لم أجد سبباً للاحتفال بمناسبة كهذه.

لذا، فقد جاء هذا العمل المسرحي «الحرب المتعبة»، ليلقي الضوء على السنوات السبعين التي مَرَّت على نهاية الحرب، وما حملته من ارتدادات.

بمعنى أن الحرب لا تنتهي بوقف إطلاق النار في ميدان القتال، لكن النار تظلُّ مشتعلةً في قلوبِ الأمهات والأطفال اليتامى الذين تستمرّ معاناتهم بسبب

الحرب، والآباء المتعبون الذين تجدهم «ليسوا آباء»، وقد خبروا الحرب وعاشوا فظاعتها وذكرياتها المؤلمة المحفورة أيضاً في مخيّلة الأجيال المتعاقبة. لأن ذاكرة الحروب مملوءة بالصراعات دائماً، ويحصد نتائجها الوخيمة الجميع. القتل والدمار والتهجير واللجوء والتتشرّد والكوابيس، وفقدان العيش والإنسانية، بمعنى أنهم أحياء فقط من دون حياة حقيقية.

إذن، لا منتصر في الحرب. الكل خاسرون، حتى الضابط الذي زُيِّنَ صدره بالنياشين هو ليس بطلاً، سيعيش مع ذنبه وتجربته.

المشاركون في الحرب والقتال جميعهم مدانون، ووحشيون وعديمو الإحساس وبسببهم جاءت الخسائر المهولة من قتل وتهجير، ومن هنا على الجميع أن يقفوا ضد الحروب وضدّ صانعيها.

فاللجوء والتهجير جاءا بسبب الحرب. الحرب هي أمّ اللجوء وهي أيضاً أمّ الكوارث كلّها. الحرب واللجوء هما تؤام سياميّ ورأسان لِجسد واحد.

هي سابقة، أن تطلب إدارة عرض مسرحيّ ما، وثائق الجمهور بطاقات شخصية وجوازات سفر قبل رفع الستارة! هل كان ذلك جزءاً من العرض ولماذا؟

ـ ثمّة عبارة لبيرتولت بريخت في هذا العرض المسرحي تقول: «إنّ جواز السفر هو الجزء الأكثر نبلاً أو شرفاً في الإنسان». وهذا العبارة كتبها بريخت في فترة الحرب العالمية الثانية، وبها يتهكّم بما يتطلّبه اللجوء من وثائق وأختام وموافقات. فاللاجئ يحتاج إلى جواز سفر مثلما يحتاج من يريد أن يفتح حساباً في بنك مثلاً، وجواز السفر لهذا بالنسبة إلى اللاجئ هو أمر مستهجن ومرفوض. فأردت أن يشعر الجمهور بمعاناة اللاجئ حين تُطلب منه الوثائق. والسؤال: هل أنا من دون جواز سفر لست إنساناً؟ وهل إنسانيتي تأتي من جواز سفر؟ وعلى الرغم من أن الجمهور يعرف أنه في مسرحية وأنه سيسترجع جواز سفره بعد ساعة، فإنه كان متوتراً ومستاءً، ويشعر أنه يفقد جزءاً غالياً منه. أو كما لو كان هو ذاته غير موجود.

المعلومات المكتوبة في الجواز، كالاسم وتاريخ الميلاد والجنسية لا تعبّر مطلقاً عن شخصية الإنسان وهويته وتفكيره. والسؤال هنا: هل يكفي أن نعرف الاسم وتاريخ الميلاد والجنسية ومكان الإقامة حتى نقول هذا إنسان؟ وإذا لم نعرف، فهل هو أو هي، غير إنسان؟

ولا يمكننا تقييم إنسانية الإنسان عبر الاطّلاع على اسمه وميلاده وأصله. أكرّر وأقول، إن إنسانية الإنسان هي أسمى من كلّ شيء.

أردت أن أقول لا تعيروا كل هذا الاهتمام لهذه الوثائق. انظروا إلى اللاجئ كإنسان لا كإسمٍ ومولدٍ وجنسية. واعرفوا إنسانيته ومعاناته وألمه وخوفه ومصيره. تعرّفوا إلى هويته كإنسان له عقل ومشاعر وأحاسيس وآلام وآمال وأحلام وله قصة خوف وفرار من الموت والقتل.

عندما يقرّر قاض مثلاً، أن يمنح لاجئاً ما حق اللجوء والحماية، ويمنح على هذا الأساس جواز سفر، فهذا حق طبيعيّ وإنسانيّ لللاجئ الذي هرب من الحرب والقتل في بلاده التي عاش فيها مُهدَّداً وبالكاد نجا من الموت. لكن، عندما لا يمنح قاض أيّ لاجئٍ هذا الحقً ويقول لا، فهذه الـ«لا» هي ليست للاسم والمولد والجنسية ومكان الإقامة. بل هي «لا» لمصيره كإنسان، وهذه الـ«لا» هي قتل لإنسانية اللاجئ.

نعم، عندما أخذنا جوازات السفر من الجمهور، عنينا تماماً، أن يكون ذلك جزءاً من العرض. لنوصل رسالتنا: الإنسان ليس وثيقة، وإذا كانت الوثائق مهمة بشكل أو بآخر فإن اللاجئ هو إنسان وهو الأهم دائماً. هو أهم بكثير مما تقول بطاقته الشخصية.

هل تعتقد أوتا باور أن المتلقّي الأوروبي قد التقط الرسائل التي دُسّت في النصّ كإشارات مشفّرة، حين قلتِ على هامش العرض: «وحدها مصادفات التاريخ جعلت الأوروبيين هذه المرّة غير لاجئين»؟

ـ هناك مشهد في هذه المسرحية، يقوم من خلالهِ الممثلون بالحديث إلى بعضهم، من دون الإصغاء لِما يقوله كلّ واحد منهم. حيث بدوا وكأنهم يعبّرون عن أحلامهم وأمنياتهم ليسود السلام. وهم يُدلون بشهاداتهم لما نتج عن الحروب التي عاشوها ونجوا منها، وعن مدى المأساة والمعاناة الرهيبة، وحجم الدمار الذي تخلّفه وحشية الحروب والعدد الهائل من النساء والأطفال الذين قتلوا وراحوا ضحايا. ودمار الأوطان وفقدانها.

إنّ أشكال المعاناة التي عاشتها الشعوب من كوارث الحروب بأزمنة مختلفة، هي متعدّدة ومتنوّعة. لذلك قلت إنّ الأوروبيين عاشوا الحروب ومآسيها، وذاقوا مرارة اللجوء. وإنّ المصادفة التاريخية وحدها، هي التي جعلت الأوروبيين ليسوا اللاجئين هذه المرّة. وإن ما أعيشه اليوم من حرب، قد تعيشه أنتَ غداً والعكس أيضاً صحيح.

كما أنني في هذه المسرحية، تناولتُ قصص الحروب واللجوء في أوروبا قبل سبعين سنة، حيث عاشت الدول الأوروبية موجات من اللجوء من جرّاء الحرب. لذلك، أنا من خلال هذا الطرح، كنت آمل، وأودّ، أن يستعيد الجمهور الذي حضر العرض ذاكرته ممّا سمع من الأهل عن قصص التهجير بسبب الحروب ومعاناة اللجوء التي عاشتها أسَرهم في السابق، وأن يطرح الأسئلة ليعرف المزيد. فدعني أقول إنها فرصة لأن يسمع الجميع ويعرفوا معاناة عائلاتهم سابقاً، ليعرفوا حقيقة معاناة الآخرين حالياً.

لو لم يفتح أحدهم الباب لأجدادي القادمين لاجئين من رومانيا، لما كنت أنا هنا الآن. كذلك الحال بالنسبة إلى كثيرين ممّن يعيشون هنا، حيث كانت لعائلاتهم قصص لا تُنسى عن الهجرة واللجوء.

لهذا السبب، أردت أن نفتح الباب للّاجئين القادمين إلينا بحثاً عن الأمن لعائلاتهم تماماً كما حصل معنا قبل سبعين سنة. فالحياة منحت فرصة الأمن والنجاة من الحرب لعائلات أوروبية كثيرة، وعلينا أيضاً القيام بإنقاذ العائلات المُهددة حياتها الآن.

أميركا أنقذت أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. عندما كانت أوروبا تعاني من الجوع نتيجة الحرب لسنوات، كانت الطائرات ترمي سلال الغذاء للناس، لماذا لا ترمي الطائرات الأوروبية مثلاً الغذاء لمدن سوريّة يموت أهلها جوعاً. حلب مثلاً. وغيرها من المدن السورية وأريافها التي يتعرّف الأطفال خمس سنوات في بعضها للمرّة الأولة إلى الخبز ويقبلونه؟!

الطائرات تجلب الموت غالباً للناس، الطائرات الأوروبية تستطيع أن تلقي سلال الغذاء ليعيش الناس، لا ليموتوا جوعاً!

عادة، يقولون في أوروبا وأميركا أن لا نقود للمساعدة والإنقاذ. لكن الحقيقة مختلفة، ففي أوروبا وأميركا يلقون في البحر أنواعاً محدّدة فائضة من الغذاء كي يحافظوا على الأسعار. في هذا العالم نقود كثيرة، والكثير منها يُخصّص لتطوير الأسلحة، والأبحاث العلمية لاستكشاف الكون والكواكب، أما في كوكب الأرض، فكثيرون من الناس، والأطفال خصوصاً، يموتون من الجوع، هذا هو الجنون بعينه.

لقد رأينا صوَر الأطفالِ في سورية وهم يموتون جوعاً. أليست مهمة إنقاذ هؤلاء الناس وحياتهم المُهدّدة بالقتل والموت والجوع مسألة إنسانية، وعلى الجميع أن يعملوا لإنقاذ كلّ طفل؟

«شنتزل»: أكلة شعبية في النمسا، مكوّنة من شرائح اللحم المقلي بالزيت، والبطاطا مع تتبيلة خاصّة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى