رئاسة الجمهورية العربية السورية: نقاط ثلاث واضحة
د. جورج جبور
لا تحاول هذه الصفحات تعزيز موقف ايّ من فرقاء الأزمة السورية. وليس لصاحبها حتى الآن رأي محدّد في الكيفية التي يحسن من خلالها التعامل مع مسألة تتداولها يومياً وسائل الإعلام: ما مصير الرئيس بشار الأسد. ينحصر ما أكتبه في الإضاءة، ولو بشكل محدود، على إشكالية يرى كثيرون أنها محيطة برئاسة الجمهورية العربية السورية. ولعلّ بدء تفكيري بالموضوع يعود الى سؤالين كثيراً ما وجههما بعض الصحافيين الى الرئيس الأسد منذ بدء الأزمة – العدوان. أما السؤالان فهما: الى متى سوف تستمرّ في الحكم؟ ثم: هل تنوي ان تورث الحكم الى ابنك؟ وأسارع الى القول إنّ إجابة الرئيس الأسد على السؤالين كليهما كانت دائماً منطقية كاشفة لتحامل إعلامي.
النقطة الأولى: الرئاسة بصفتها موضوعاً رئيساً في استمرار النزاع
لا ريب انّ موضوع الرئاسة أهمّ موضوع على صلة باستمرار النزاع، أو على الأقلّ، من أهمّ المواضيع. وحين يقال في المؤتمر الصحافي الذي عقد لإعلان الاتفاق الروسي الأميركي الأخير انّ الموضوع لم يبحث، ايّ انه مؤجل، فمعنى ذلك انّ الاتفاق – وأحبّ أن أطلق عليه اسم: «اتفاق وقفة الأضحى» – مهدّد. لا أقصد بذلك الإيحاء بأن الاتفاق لن ينجح. فرص نجاحه كبيرة وينبغي ان نزيد فيها حتى لو استمرّ موضوع الرئاسة مؤجلاً. إلا انّ التأجيل يحمل تهديداً للاتفاق لسبب بسيط هو انّ رئيس إحدى دولتيه نزع – بعمل فردي من عنده – الشرعية عن الرئيس الأسد باكراً في عمر الأزمة، ولم يستطع ان «ينزل عن الشجرة» كما يُقال، علماً أنه نزل عن الشجرة حين اتخذ موقفاً معلناً من «إسرائيل» ومستوطناتها، نزل ابتغاء للسلامة، سلامته الرئاسية. يعلم الرئيس أوباما انّ السوريين سوف تقلّ معاناتهم انْ نزل عن الشجرة، لكن سلامة السوريين لم تكن سبباً كافياً له لكي يتنازل عن موقف اتخذه في آب 2011، استبق به أحداثاً توقع حدوثها ولم تحدث. ونتج عن موقف أوباما أثر سلبي كبير. أصبح شعار المعارضة السورية الأول «إنهاء رئاسة الأسد». موقفان مناهضان للأسد، أقواهما من الخارج، جعلا الرئاسة موضوعاً رئيساً في استمرار النزاع. لا إنكار لحقيقة كبرى هي أهمية الرئاسة في كلّ دولة، ولا سيما في دولة كسورية كانت لها رئاسة قوية ظاهرة في كلّ مفاصل الدولة والمجتمع منذ عام 1971. ولا إنكار لحقيقة كبرى ثانية وهي انّ تولي الرئيس بشار الرئاسة كان أشبه بعملية توريث، رغم الإجراءات الدستورية السليمة التي رافقته. الا انّ الوضع في سورية هو موضوع دم يًراق يومياً. الموضوع الرئيس في الوضع السوري الراهن هو وقف سفك الدم، ومعه وقف تدمير البنى والأبنية. الإرهاب هو الموضوع الرئيس. نعم، يمكن لموضوع الرئاسة ان يؤجّل. ويبقى مع ذلك موضوعاً رئيساً في استمرار الأزمة. انه موضوع رئيس، وليس الموضوع الرئيس. وهذا التوصيف هو ما قام على أساسه «اتفاق وقفة الأضحى»، وهو توصيف يسجل لصالح الدبلوماسية الروسية، دون ان ينتقص ذلك من قدرة الدبلوماسية الأميركية على التأقلم مع موقف هو نصف نزول عن الشجرة. ومن المفيد تأقلم قوى المعارضة السورية مع الموقف الأميركي. وان يتمّ التأقلم بصراحة معلنة، لكي يتناقص التهديد الذي يتعرّض له «اتفاق وقفة الأضحى». لا يحق لأحد ان يهدّد اتفاقاً يشكل انهياره اغتيالاً لآمال السوريين. ولن يفوتني القول بانّ التهديد للاتفاق ليس محصوراً بمسألة مصير الرئيس الأسد. تحيط بالاتفاق تهديدات من جوانب عديدة، ويبقى حظه في النجاح كبيراً رغم ذلك.
النقطة الثانية: الرئاسة بصفتها ولاية محدودة المدة
كثيراً ما يوجه الى الرئيس الأسد سؤال استفزازي: «متى تترك الحكم؟» وكثيراً ما يجيب: «أفعل حين يريد الشعب». الاجابة ليست دقيقة. ليست إرادة الشعب، معبّراً عنها في انتخابات رئاسية، هي الحاكم الوحيد في مسألة توقيت انتهاء الولاية. ثمة حاكم آخر هو الدستور. يمنع الدستور الحالي الرئيس الأسد من الاستمرار في الحكم بعد عام 2028، حتى لو رغب الشعب في ذلك. صحيح انّ الدستور قابل للتعديل لينسجم مع رغبات الشعب كما يفترض ان يعبّر عنها مجلس الشعب، إلا أنّ تعديل الدستور أمر استثنائي. ثم انّ المادة التي تبيح للرئيس الحالي الاستمرار إلى عام 2028 هي مادة استثنائية كما نص على ذلك الدستور الحالي نفسه. الأصل في دستورنا الراهن انّ الولاية سنوات سبع قابلة للتجديد مرة واحدة. لو لم تكن الحالة الراهنة في سورية استثنائية لما كان مسموحاً للرئيس ان يستمرّ إلى عام 2028. لكن أيضاً وفي المقابل: لو لم تكن الحالة استثنائية لما كان لدينا دستور جديد يحدّد عدد الولايات الدستورية باثنتين. دستور 1973 ترك عدد الولايات مفتوحاً، فانتخب الشعب الرئيس حافظ الأسد مرات خمسا، بالأسلوب المعهود. ومن المفيد في تاريخ سورية الدستوري تذكيرنا بمحاولة سابقة جرت عام 1947، حين وقّع عدد كبير من النواب مذكرة تطالب بجعل انتخاب الرئيس مباشراً من الناخبين، وليس عن طريق النواب، وبإتاحة المجال امام الرئيس لكي يُنتخب للمرة الثانية والثالثة «وإلى ما شاء الناخب». أتت المذكرة في وقت كانت فيه شعبية الرئيس شكري القوتلي قد بلغت الأوج، كما رأى أصحاب المذكرة، فاستحق ان ينتخب ليس لمرة ثانية فقط، بل لمرة ثالثة، «وإلى ما شاء الناخب». لم يتح لهذا الرأي ان ينتصر. جرى في عام 1947 تعديل دستور 1930، فأتيح للرئيس ان يتولى الرئاسة لولاية ثانية فقط، على ان يعود إليه حق الترشح بعد انقضاء ولاية رئاسية واحدة لشخص آخر. ونعلم بالطبع انّ انقلاباً اطاح بالرئيس القوتلي قبل مضيّ عام على بدء ولايته الرئاسية الثانية. ثم انّ ثمة جانباً يستحق الذكر حين أثيرت مسألة التجديد عام 1947. كان دستور أميركا لا يحدّد عدد الولايات الرئاسية. انتخب روزفلت مرات اربع، لمدة أربع سنوات في كلّ مرة، بدءاً من عام 1932. أشار أصحاب مذكرة «وإلى ما شاء الناخب» إلى الدستور الأميركي، في إيحاء بأنّ من المناسب الاقتداء به. توفي الرئيس روزفلت عام 1945، بعد عام واحد من ولايته الرابعة. من المرجح انّ أصحاب المذكرة في دمشق لم يتنبهوا الى انّ أميركا، بعد وفاة روزفلت بقليل، بدأت مسيرة تعديل لدستورها، انتهت باعتبار عشر سنوات حداً أعلى للاستمرار في شغل الرئاسة. المقصود من النقطة الثانية واضح: من الضروري تذكرنا انّ ثمة حدوداً لمدة الولاية او الولايات الدستورية تتجاوز إرادة الناخب، ايّ إرادة الشعب. في التقاليد الدستورية ثمة خشية من تراكم القوة في يدي الرئيس الذي يطول مقامه في الحكم.
النقطة الثالثة: الرئاسة بصفتها رئاسة لمجلس إدارة
تردّدت في القاموس السياسي السوري عدة تعابير تشير إلى القيادة. أشهر تعبيرين هما الزعيم والرئيس، وإلى جانبهما تعابير أخرى منها القائد والعميد والأمين العام. كان من تقاليد الكتلة الوطنية ان يكون لها زعيم ورئيس. فأما الزعيم فهو ابراهيم هنانو. ذلك لقب ربما بدا لكثيرين أرفع مقاماً من لقب الرئيس الذي تمتع به هاشم الأتاسي. او فلنقل انه كانت لهنانو شعبية تتفوّق عدداً على شعبية الاتاسي الذي كان شخصية نخبوية لها احترامها عند المشتغلين بالسياسة. كذلك تمتع الدكتور عبد الرحمن الشهبندر بلقب «زعيم»، وربما نودي بذلك اللقب منذ إنشائه حزب الشعب الذي تطوّر فأصبح في وقت لاحق «الكتلة الوطنية»، ولكن من دون الشهبندر. يهمّنا هنا انّ الرئيس القوتلي غدا، منذ اغتيال الشهبندر، زعيماً وطنياً عالي المقام. وكان ان انتخب رئيساً عام 1943 مبتدئاً ما اصطلح على تسميته بالعهد الوطني. درج بعض المتحمّسن للقوتلي على وصفه بأنه «الزعيم الرئيس». بدت كلمة الرئيس ضيقة عليه في نظر هذا البعض. ولا بأس من إيرادي هنا ما سمعته من بعض قدامى المثقفين البعثيين حول وصفهم للقوتلي. كان هذا البعض يختصر الوصفين بتعبير ساخر مركب: «زعمريس»! كذلك كان ينظر الى أديب الشيشكلي على أنه رئيس وزعيم معاً. بعد انهيار حكم الشيشكلي انتهى عهد الزعامة. تولى المنصب الأعلى رئيسان لا زعيمان: الأتاسي فالقوتلي. لم يكن الأتاسي زعيما في قاموس الناس. كان دائماً رئيساً فقط. أما القوتلي الذي انتخب للرئاسة مرات ثلاث، فقد كانت رئاسته الثالثة خالية، الى حدّ كبير، من ألق الزعامة. وانتهت، كما هو معلوم، بإنجاز عالي التقدير هو تنازله عن الرئاسة ليصبح «المواطن العربي الأول» في دولة الوحدة. لن أتابع مسيرة السياسة السورية منذئذ. ولن أناقش هنا موضوعاً خطيراً هو العلاقة المتبادلة بين قوة الرئاسة وقوة المجتمع. في المجتمعات التي لم تستقرّ سياسياً سؤال كبير يطرح نفسه: هل تخلق الرئاسة القوية مجتمعاً قوياً أم تضعفه؟ قد أعود الى الأمرين المشار اليهما آنفاً في مقال لاحق، والعودة ضرورية مني او من غيري. أكتفي بالقول انّ الاتجاه العام في السياسة العالمية الراهنة هو تحوّل الرئيس الى رئيس مجلس إدارة. للرئيس صلاحيات تتفوّق على صلاحيات غيره من مسؤولي الدولة، إلا انه يمارسها من خلال مؤسسات لها حق مضايقة يصل إلى حق نقض. الموضوع دقيق، والحديث فيه وقت الكتابة صباح الخميس 15/9/ 2016 يتقاطع مع تعبيرين مفهومين متداولين في الوضع السوري الراهن، أولهما للحكم وهو الحكومة الجامعة، وثانيهما للمعارضة وهو هيئة تنفيذية انتقالية كاملة الصلاحبات.
هدف النقاط الثلاث السابقة الإضاءة على بعض ما يحيط بمسألة رئاسة الجمهورية العربية السورية. لا أدري ان أفلحت، لكنني، في كلّ حال، لا أستبعد أن أعود، بصفتي الشخصية كأستاذ للسياسة، إلى البحث في نقاط أثيرت في أمكنة سابقة من هذا المقال، نقاط بعضها أوثق صلة بصميم المسألة، مسألة الرئاسة. أقدّر الرأي الذي يقول إنّ الرئاسة خط أحمر. وسيتمّ البحث، إنْ أتى، ضمن الاحترام الواجب لمقام الرئاسة، احترام لا يخلّ بحرية الفكر الهادف إلى إعادة السلم والأمن الى الوطن الحبيب.
رئيس جمعية العلوم السياسية في سورية قيد التأسيس