التفاوض على صفيح ساخن رسمت دمشق حدود الشمال والجنوب فأرادت واشنطن رسمها شرقاً
ناصر قنديل
– تمثل الغارة الأميركية على مواقع الجيش السورية في دير الزور نموذجاً للمعادلة التي يردّدها الكثيرون، لكنهم يفقدون توازنهم عندما يشهدونها، وهي معادلة التفاوض على صفيح ساخن، وهذا هو التفاوض على صفيح ساخن، وليس نهاية التفاوض كما يفترض الكثيرون، فنهاية التفاوض تعني أحد أمرين إما العجز عن امتلاك أوراق قوة في الحرب التي تتبلور نتائجها في السياسة او تستهلك وتتعفن وتتآكل، أو العجز عن تحمّل الصفيح الساخن وارتضاء التعايش مع الأمر الواقع الذي لن يكون أفضل من التآكل والتعفن، فهو التقاسم الواقعي لميادين الحرب بجغرافيتها وناسها وما فيها من قيم استراتيجية عسكرية واقتصادية، لأنّ بلوغ التفاوض ودخوله يعنيان أمرين، الأول هو الإقرار من القوة التي دخلت الحرب وبيدها المبادرة ولديها مشروع تأمل بكونها وفّرت له أسباب النجاح، أنها فشلت وعجزت عن فرض مشروعها وعن كسر الإرادة المقابلة وباتت جاهزة لارتضاء الحلّ الذي يكرّس فشلها، لكنه يحفظ ماء وجهها، وهذه حال أميركا في الحرب السورية، والأمر الثاني أن الطرف الذي كان مهدّداً في بداية الحرب ونجح في الثبات والصمود وانتقل للهجوم يدرك حجم التعقيدات المحيطة بالحرب، وصعوبة وربما استحالة تحقيق مشروعه الوطني لوحدة جغرافيته، واسترداد شظاياها من أنياب الذين يتقاسمونها بغير الطرق السياسية والدبلوماسية المرافقة للحرب العسكرية، كما يدرك معنى تتويح نصره بانتزاع العودة إلى منابر العلاقات الدبلوماسية واسترداد الاعتراف بالحكم والحكومة وإعادة السفارات وإلغاء العقوبات، وهذا هو حال الدولة السورية.
– التفاوض على صفيح ساخن يعني أن الوقت داهم لصياغة التفاهمات الكبرى والملفات غير الناضجة كثيرة، فإنضاجها يتم باختبارات الدم والنار، ورسم حدود القوة يتم بالقوة، ويصيغ المتفاوضون حاصل جولات الموت التي يخوضون غمارها وهم يبتسمون كحال حكم مباراة ملاكمة تشهد الدم ينفر من أنف وانحناء لوح كتف وتصدر أصوات طقطقة الفك وهو يتكسّر، بينما الحكم منهمك بتسجيل النقاط، والانسحاب من المباراة خسارة حتمية، وهو أسهل الخيارات، وهو ما يشبه بعض الدعوات اليوم لوقف التفاهمات، والانسحاب منها، رغم ان التلويح بذلك ليس خطأ، من ضمن اعتبار ضربات الخصم مخالفة لقواعد اللعبة، وهذا معنى قول الروس للأميركيين إنهم يخدمون داعش بغارتهم، وهو ليس موضع تندر بأنه اكتشاف متاخر، وقد سبق وقاله الروس مراراً للنيل من صدقية الموقف الأميركي، لكنه اليوم في التفاوض على الصفيح الساخن له معانٍ أخرى، لأنه يهدف لوضع ضوابط اللعب على الصفيح الساخن ويحذر من لعب مشابه قد يصير مباحاً لسورية إظهارها إذا اعتبر الأميركيون ضربتهم مشروعة، مثل رمي الصواريخ خلف خط احتلال الجولان، كما قال الصاروخ الذي تصدّت له القبة الحديدية التي نصبها الأميركيون بصواريخ الباتريوت لحماية بيت العنكبوت. فنحن هنا في تفاوض وعلى صفيح ساخن لأننا في قلب ربع الساعة الأخير، وليس لأننا على أبواب حرب يعرف الأميركي أنه لم ينفذ غارته ليشعلها، وهو لم يفعل يوم جاء بأساطيله إلى المتوسط وارتضى أن يرحل، ولم يكن الروسي قد توضَّع في سوريا، ولا السعودية غارقة في حربها القاتلة في اليمن، ولا تركيا فاقدة حيويتها بعد تكسر رماح العثمانية وحمى تيفوئيد الانقلاب وفوبيا غولن، لكن الغارة نفسها لم تكن خطأ بالمعلومات كما يدّعي، ولا محض صدفة. هو التفاوض على صفيح ساخن وما تفرضه الهيستيريا من ضربات ممنوعة، فيصير في قلب التفاوض تفاوضاً على شروط السير على الصفيح الساخن الذي يتم التفاوض فوقه.
– الغارة كرسالة دموية قاسية تستثير وجدانياً مواقف لا تسمح بالتفكير بعقل بارد ولا بتقبّل الكلام المناسب للغة تحتاجها اللحظات الحساسة لربع الساعة الأخير، وللتفاوض على صفيح ساخن، والموجات العاطفية التي يطلقها فوران الدماء، هدف كل استفزاز تقدم عليه القوى المتربصة بالتفاوض منعاً لنيل المنتصر درع التثبيت لنصره، بهدف استثارة كل المشاعر الوطنية والإنسانية وحشدها لصناعة ردود أفعال تسقط التفاوض، وتعيد سورية للتآكل والتقاسم، وهو مشروع إسرائيلي سعودي، يملك نصيباً وافراً من الدعم داخل الإدارة الأميركية، التي أجازت لعسكرها رسالة دموية لسورية من ضمن مكر وكيد التفاوض على صفيح ساخن. لكن العسكر الحاصل على التفويض استخدم هوامشه المتاحة لجعل الرسالة أداة أشد تسبباً بالنزف والألم عسى الفوران الدموي يفعل ما يلزم لنسف التفاوض، فالغارة بعلم وموافقة كل الإدارة وعلى رأسها الرئيس الأميركي ووزير خارجيته، والمكلّف بها وزير الدفاع الذي يقود حلف المتربصين بسورية ومعه السعودية وإسرائيل، أرادوها أبعد مدى، وأوسع أثراً.
– الواضح من الجغرافيا التي اختارتها الغارة أنها تأتي على ارضية رسم حدود الجغرافيا الحدودية لسورية، والواضح أن واشنطن التي تلقت جيداً رسائل سورية نحو كل من إسرائيل بإطلاق صواريخها على الطائرات الإسرائيلية، في زمن التفاهم الروسي الأميركي، أدركت حجم القوة التي تتسم بها الرسالة، فسورية نجحت بضبط إسرائيل في غرفة نومها عارية، وهي تدعم جبهة النصرة التي نص التفاهم على اعتبارها هدفاً مشروعاً للحرب، بينما سورية هي مَن ينفذ روح التفاهم، لكن سورية اوصلت رسالة أبعد مدى من قتال النصرة، مضمونها الخط الأحمر حول حدودها الجنوبية، مثلما فعلت باستثمار التفاهم الذي يقف ضلعه الروسي مسانداً للموقف السوري بضبط التفلت التركي داخل الحدود والأجواء السورية، ويقف ضلعه الأميركي منزعجاً من الضغط التركي على حصان رهانه الكردي عبر التوغل داخل الحدود والأجواء السورية. فقالت دمشق لتركيا كلاماً بمثابة إنذار، لن تخرج واشنطن ولا موسكو للاعتراض عليه، مضمونه خط أحمر لحدود سورية الشمالية، فجاءت الرسالة الأميركية التي يبدو أن المطلوب كان أن تستهدف موقعاً سورياً منعزلاً، يقول استهدافه إن الحدود الشرقية لسورية هي منطقة عمليات أميركية، فجاءت بحجم فوق طاقة واشنطن على الاحتواء تحت مظلة التفاوض على الصفيح الساخن، أو قطف ثمار ما تضمنت، ففتحت الباب لدينامية سياسية وعسكرية وتفاوضية تتخطى قدرة إبقائها تحت السيطرة بسهولة.
– قضية سورية اليوم التأكيد على وحدة الجغرافيا الوطنية، وإعادة تثبيت خطوط حمر حولها تمنع العبث داخلها وتشترط أن يكون كل جهد يدّعي الانتساب للحرب على الإرهاب تحت باب التنسيق مع الحكومة السورية، وردع كل محاولة لتخطي الحدود السيادية للدولة السورية، والثبات السوري المدعوم من الحليفين الروسي والإيراني سيسمح بفرض معادلة تنتجها الغارة تأسيساً على الذريعة الأميركية بادعاء الخطأ، اشتراط المساهمة الأميركية في الحرب على الإرهاب بالتنسيق المباشر مع الحكومة السورية وقيادة الجيش السوري، وتحويل غرفة العمليات الجوية التي نصّ عليها التفاهم الروسي الأميركي من غرفة ثنائية تضمّ الروس والأميركيين، إلى غرفة ثلاثية روسية سورية أميركية، هذا عدا عما سيكون ممكناً الضغط لتحقيقه من نتائج في سياق التحرك الروسي لطلب تحقيق نزيه، يفترض أن يكون ثلاثياً أيضاً وأن ينتهي بإجراءات، أقلها استقالة المسؤولين عن ارتكاب الجريمة المسماة زوراً بالخطأ وفي مقدّمهم وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر.