ليحرر المخطوفون… دون أن يطعن الجيش والوطن
العميد د. أمين محمد حطيط
لا شك في أن ملف العسكريين الذين خطفهم الإرهاب من محيط عرسال، هو من أخطر وأهم الملفات التي تعني الجيش والوطن والتي ينبغي التعامل معها بحذر وعناية تجنباً للوقوع في خطر يفوق عملية الخطف بذاتها. خصوصاً أن بين من يتداول الملف من الطارئين على الساسة أو من المرتزقة السياسيين الذين همهم خدمة من جندهم مقابل ما يتلقون من منافع وما يوعدون به من مكاسب لاحقة، ولأنهم هكذا فإنهم يدفعون في معرض البحث عن حل لهذا الملف، إلى إخراج مجرمين وإرهابيين وقتلة من السجون اللبنانية مقابل استرضاء الجماعات المسلحة التي خطفت العسكريين واستعطافها لإطلاق سراح العسكريين الـ25 المتبقين منذ نيف وشهر في قبضة الخاطفين.
في البداية نؤكد على مسؤولية وواجب الدولة برمتها وواجب الجيش بشكل خاص السعي من أجل تحرير العسكريين المخطوفين وبشتى السبل من دون أن يكون في هذا الأمر قيد أو شرط باستثناء القيد المتعلق بهيبة الدولة وجيشها واحترام القانون وصلاحية المؤسسات الدستورية، في شكل يمنع التداخل أو التسلط أو التجاوز وقبل ذلك وبعده القيود الصارمة المتعلقة بالأمن وعملية حفظه. نقول هذا على رغم ما نحتفظ به من ملاحظات كبيرة على معالجة الملف حتى الآن، معالجة اقتحمت فيها السياسة الميدان العسكري وأضاعت فرصاً ثمينة كانت بيد الجيش كان يمكن استغلالها من أجل بلوغ الهدف، أهمها الاستمرار في حصار المسلحين في عرسال وقطع أي نوع من أنواع الإمداد والتموين لهم حتى إكراههم على إطلاق الأسرى، لا أن يفرض القرار السياسي على الجيش وقف إطلاق النار مع مسلحين يخطفون أبناءه ثم التبرع وبناء لطلب تيار المستقبل بفك الحصار عنهم وتركهم يتجولون بأمان بين عرسال وجرودها ومعهم المخطوفون الذين تشتتوا بين إرهابيي «داعش» وإرهابيي جبهة «النصرة « من دون أن يكون هناك علم يقيني حول أوضاعهم من حيث الصحة والسلامة أو المكان وظروف الاحتجاز.
والآن وقد وصلت الأمور إلى هذا المأزق البالغ السوء، ومع تصاعد الأصوات التي يطلقها فريق سياسي امتهن طعن الجيش منذ أن بدأ عمله السياسي في لبنان في مطلع التسعينات تيار المستقبل ومن التحق به من أتباع أدرجوا تحت تسمية 14 آذار ، أصوات مواقف تسبب في المأزق أصلاً ودعت في البدء إلى حل سياسي لعدوان الإرهابيين على الجيش قصدوا بالحل السياسي امتناع الجيش عن العمل بمقتضى القواعد العسكرية ضد عدو أو معتدي ، ثم اتجهت إلى محاورة الإرهابيين عبر تكليف جماعة معروفة بعدائها للجيش والدولة واعتناقها مذهب الإرهابيين سياسياً ودينياً المسماة هيئة العلماء المسلمين ، وصولاً إلى الدفع باتجاه المبادلة أو المقايضة بين العسكريين المخطوفين الـ25 و300 إرهابي موقوف لدى المؤسسات الأمنية والقضائية اللبنانية. وعلى رغم ما كان في المحطات الأولى من سلبيات فإن الكارثة في هذا الطرح تتجاوز المساوئ الكبرى الماضية لتصل إلى حد الانتحار الوطني ما يستوجب التحذير منه وإظهار مخاطره الجسيمة على الدولة والجيش والأمن الوطني وعمل المؤسسات كلها.
فالمقايضة في حال حصولها، ستقود بشكل آلي تلقائي إلى إرساء معادلة في العلاقة مع الإرهابيين مؤداها القول «حذارِ التعرض للإرهاب وإلا تدفعون أغلى الأثمان»، وتترجم بأن «كل مس بأي إرهابي أو اعتراض له سيقود إلى خطف عسكريين بالحجم المتاح وإرغام الدولة على إطلاق من تم التعرض له أولاً، مع تعويض إضافي يتمثل بإطلاق تسعة سواه مقابل كل عسكري يخطف. ونتيجة لهذه المعادلة سيكون على الجيش وتالياً القضاء التوقف عن ممارسة مهامهم القانونية و»تقديم مراسم الاحترام والتوقير» أو أقله تجنب الإرهابيين في معرض تنفيذهم لأعمالهم الإرهابية. فهل هذا ما يريده مرتزقة السياسة في لبنان؟ فإذا كانوا يريدون ذلك فلماذا الجيش أصلاً ولماذا التغني بتسليحه بالمكرمات التي ما زالت وعوداً؟ التي لم نر من مفاعيلها شيئاً حتى الآن .
من المؤكد أن للمقايضة المنتجة لتلك المعادلة المأساة، مفاعيل كارثية على عمل المؤسسات الأمنية والعسكرية والقضائية وعلى الأمن الوطني برمته، حيث نجد أفراد هذه المؤسسات سيطرحون على أنفسهم السؤال التالي: «ما جدوى القيام بالواجب وتنفيذ المهمة الأمنية أو العسكرية أو القضائية طالما أن الملاحقة إذا حصلت ستقود إلى تعريض المؤسسة وأفرادها لخطر القتل والخطف، ثم يطلق سراح الإرهابي بعد أن يكون قتل من قتل وعانى في الأسر من عانى»؟ كما أن هناك سؤالاً أخطر قد يطرحه العسكري في الميدان على نفسه يتضمن القول: «أليس الوقوع في الخطف أفضل من مواجهة الإرهابيين وقتالهم وتعريض النفس للقتل، طالما أن الإرهابيين سيحررون مع المخطوفين عملاً بمعادلة المقايضة»؟ وهنا تكمن الكارثة التي تنزل بمعنويات الجيش والعسكريين وإرادة القتال والثبات في الميدان وعندها لن يكون أمن وطني ولا من يحزنون.
ومن جهة أخرى وفي حال السير قدماً بطرح المقايضة، فإن عقبات قانونية ودستورية بالغة التعقيد تعترض التنفيذ، فهل استعد دعاة المقايضة للإطاحة بالدستور وما نص عليه بفصل السلطات، أو الإطاحة بالقانون وما نص عليه من صلاحيات المؤسسات الوطنية؟ أم أن امتهانهم لمخالفة الدستور والقانون جعلهم يستسهلون الأمر كما استسهلوا إنفاق 11 مليار دولار من دون سند قانوني وحكموا منذ عام 2005 من دون موازنة؟
وعلى سبيل التذكير نقول إن إطلاق مجرم محكوم بحكم قضائي بحاجة إلى عفو عام بقانون أو عفو خاص يصدره رئيس الجمهورية بمرسوم، وظروف الدولة الآن تمنع السير بأي منهما لأسباب يعرفها الجميع، وبالتالي لا مجال للبحث في إطلاق أي محكوم، أما من أحيل قراره الظني أو الاتهامي إلى المحكمة فليس لأحد أن يطلقه إلا أن تبرئه المحكمة بحكم أو يصدر عفو عنه بعد حكمه وفقاً للحالة الأولى فهل سيصادر دعاة المقايضة صلاحية القضاء ويحكمون بدلاً عنه بالبراءة؟ وأخيراً يبقى فقط من هم لدى الضابطة العدلية أو من لم ينته قاضي التحقيق من عمله معهم وهنا نسأل هل إن دعاة المقايضة حضروا أنفسهم للضغط والتدخل بعمل تلك المؤسسات العدلية لتبرئة من يراد إطلاقهم وتعطيل ما جمع من أدلة على جرائمهم؟ وأخيراً ماذا في شأن مشاعر عائلات ضحايا الإرهابيين، وماذا في شأن المحكومين الأقل خطراً ممن لن تشملهم المبادلة؟
إننا نريد تحرير المخطوفين لكن نريد أن يتم تحريرهم بما يفعل العمل الأمني والعسكري والقضائي لا عبر ما ينتهك المنظومة الأمنية ويعرّض أمن البلاد للاستباحة في زمن أعلن فيه «داعش» أن لبنان جزء من دولته الإرهابية المزعومة وأنه سيضع اليد عليه عبر شعار «جئناكم بالذبح» فهل يبغي دعاة المقايضة تسليم لبنان للإرهابيين ليذبحوا أهله كما ذبح الرقيب الشهيد علي السيد؟ ثم وهل يقبل ذو شرف وكرامة أن يكافأ قتلة الشهيد هذا وناحريه أن يكافأوا بإطلاق سراح أقرانهم من الإرهابيين القتلة؟
إننا عندما نقول نريد تحرير المخطوفين من غير مقايضة نقوله لأن المخطوفين أنفسهم يرفضون هذا التفريط بالوطن والجيش أولاً وثانياً لأن في يد الدولة من أوراق فعالة يجب أن يلجأ إليها ، بدءاً من ورقة الميدان وما يمكننا فعله من قبل قواتنا العسكرية الخاصة المحترفة، مروراً بما يمكن فرضه على الإرهابيين من حصار في جرود عرسال، وكذلك ما يمكن اللجوء إليه من تنسيق أمني مع الجيش العربي السوري الذي يذيق الإرهابيين في القلمون ما يستحقونه، وصولاً إلى الضغط على عائلات الإرهابيين النازحين إلى لبنان بالتلويح بإعادتهم إلى سورية، من دون أن نغفل ورقة العلاقات مع الدول التي ترعى داعش وتحتضنه، خصوصاً قطر وتركيا… وكلها أوراق يخشى الإرهابيون أن يلعبها لبنان لذلك يستعجلون التفاوض ويستعجلون المقايضة ويصرخون مهددين متوعدين لأنهم يعلمون أن الوقت ليس في مصلحتهم.
أما بالنسبة للموقوفين في السجون اللبنانية فإننا ندعو للإسراع في محاكمتهم محاكمة عادلة لا تكون تحت ضغط الإرهاب بل تحت ضغط الحق والعدالة والشرف والضمير المهني إذ ليس من المقبول بأي شرع أو قانون أن يودع شخص في غياهب السجن من غير محاكمة من دون أن يعرف أهو مذنب معاقب أو هو بريء معتقل، وهنا مسؤولية الدولة فهل تبادر للاضطلاع بها؟ أم أنها تختار الطريق الخطأ فتظلم في مكان وتنحر الجيش والوطن في مكان آخر؟
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية