الفداء القومي.. مدرسة الخلاص الوحيدة
هاني الحلبي
تكثر النظرات إلى الموت، لكنه موت في كلّ منها. وحسب رؤيتها الموت ترى الحياة من منظارها أنها متعة أو انتظار أو اختبار.
نظرة تراه نهاية قاطعة. لا قيامة بعدها. ترى فيه فسحة معطاة للفرد ليعيش ويعمل ويستمتع بملذات حياته وعطاياها في هذا الوجود بلا تردّد ولا ضابط ولا حدّ. نظرة فردانية مادية مطلقة غالباً، ذات روحية مطلقة أيضاً. وأحياناً تتعالى صيحات ضبط هذه الفردانية المدمّرة التي ترى المجتمع ميدان صراع سرمدي بين أنوات الأفراد وسعيهم للسيطرة المتناحرة. الكائن هنا هو الفرد وحده لا شريك له. وكلّ فرد عالم بذاته مميّز عن العوالم الأخرى وله الحق المطلق في السيطرة عليها والتمتع بهذه السيطرة وملذاتها إلى أقصى حدّ مقدور عليه ومتاح. بتقدير مشيئته هو. الموت في هذه الفردانية استسلام. نهاية قاطعة لكلّ هذا الصراع الملحاح خلال عمر الفرد. حالة إقطاعية مطلقة قد تتخذ من السياسة أو من الدين أو من الاقتصاد ثوباً وبرقعاً لنهجها. وفي هذه النظرة ظلم كبير إذ قد يتمكن أبناء الأغنياء من التمتع أكثر بما لا يُقاس من أبناء الفقراء بما يتوفر لهم من قدرة الإنفاق ومن الحيازة ومن التداول ومن الاستهلاك. كيف تتاح فرص التمتع لفرد ولا تتاح لآخر، على الأقلّ ينبغي أن تتاح لكلّ فرد بالدرجة نفسها في بدء حياته كما لأيّ فرد آخر ليكون هناك عدل ما!
نظرة ثانية ترى كلّ أمر مؤجلاً تحكم حياتها قيود منزلة او متوارثة عرفياً اكتسبت قداستها من تنزل او وحي أو توارث حتى غدت مقدسة لا يمكن إعمال عقل بها هي نفسها، بل يمكن تكييف فهمها والاجتهاد في كيفية إسقاطها على معطيات واقع معيّن. هذه الحياة عندهم انتظار وفسحة عمل لكن نتائجه مؤجلة إلى يوم موعود ما بعد الموت الفردي. تحفظ هذه الأعمال في سجل مكنون إلى يوم حساب عام ليس فيه كبير أو صغير، غني أو فقير، مستكبر أو مستضعف. الكلّ سواسية في حضرة رحمن رحيم. الموت أيضاً عندهم نهاية قاطعة لحياة فرد لن تتوفر له فرصة أخرى في هذه الحياة لانتظار جديد ولا لاختبار آخر. وربما في هذا ظلم بخاصة إذا لم تتح ظروف ولادة الفرد ولا ظروف أسرته ولا ظروف عصره إمكانات كافية للتعرّف والتربية والتلقي والتفاعل، هل يُسأل عنها الفردُ الضحية؟ وشروط الانتظار أيضاً تقلل من قيمته. وتأخير الحسم في فصل نتيجة اختباره تنعكس عليها. كشوق الطالب لمعرفة العلامة التي نالها فيمكنه أن يصحّح في اختبار تالٍ إنْ لم يوفق في السابق. فكيف للمربّي حق بتأخير النتيجة لعصور ويدّعي أنّ هذا عدلاً لأنه أتاح لطلابه اختباراً واحداً في حياة وحيدة متفاوتة الإمكانات والشروط؟
نظرة ثالثة ترى الحياة اختباراً لا ينفك ينعقد كلّ لحظة. يتدرّج يوماً فيوماً، كلما حصّل طالبها درساً جديداً يقدّم فيه اختباراً خلال تلقيه وخلال استظهاره وخلال مراجعته في كلّ آن ليكتنز به. وفي كلّ لحظة يسترجع بالاختبارات التي تعرِّضه لها الحياة كلّ ما تلقاه في ذاكرته الراهنة وفي ذاكرته الجدودية المتوارثة المحفوظة في جيناته التي تزداد غنى وكمالاً جيلاً بعد جيل. الحياة اختبار ومعارف تتنامى من كلّ اختبار فيها. الولادة، الحب، الطفولة، الوجع، المرض، الفراق، العشق، الطلاق، البغض، الحقد، الوحدة، الغربة، حالات النفس كلها، حالات الاجتماع كلها، ونتائجها، حالات الوجد كلها وتداعياتها.. هنا لا حدود للاختبارات التي تزخر بها حياتنا، فكيف اختباراتها تتأجل ونتائجها كذلك؟
كيف يفسّر أصحاب النظرات إلى الحياة الحادث الذي يتعرّض له المرء؟ لا تكفي الصدفة وحدها. لا يكفي القدر وحده. ولا يكفي التقصير الفردي وحده. ولا يكفي التقصير المنظومي وحده. إنه كله وغيره معاً قد يستطيع تفسير الطوارئ في حياة الفرد وفي حياة المجتمعات!
بكلمة دقيقة لا طوارئ. إلا حيث نقص الدرس والفهم العميق لفلسفة الحياة.
يقول أبوقراط إنّ تصميم الجسم قد تمّ ليكون أبدياً، فكيف يمرض الفرد؟ المرض خطيئة جسدية أو روحية ارتكبت!
والأمم أيضاً قد صُمّمت، إذا استكملت درسها واختباراتها وتربية أفرادها مواطنين، وحسّنت إعدادها قادتها لأيام قاتمة يكونون على سوية التحدي القومي واختباراته المهولة، كيف تُهزم؟ أية هزيمة هي خطيئة نفسية جسدية اجتماعية مادية روحية سياسية فكرية. والخطايا التي يرتكبها ساسة الأمم وقادتها تُحدث نكوصاً لا يمكن علاجه في ظرف طارئ. ولا ربما في عقد من السنين وفي جيل من الأجيال وفي أجيال عدة.
إنّ ما ارتكبه القادة السوريون، منذ بدء الاجتياح الفرعوني لبلاد الشام وتلاه اجتياج فارسي لنينوى، وهما أول اجتياحين خارجيين عميقَيْ التأثير في حياتنا، وحتى اليوم ترك ندوباً هائلة في الأداء وفي الجسد السوري وفي الحياة السورية وفي النفسية السورية أبشعها تخلفها إلى بداوة جاهلية عربية لم تعرفها قط في تاريخها، يحتاج لإعادة الدرس والفهم والتعمّق في ما أدّى إلى ما نحن عليه.
الفداء القومي أقصر الطرق لإعادة الصهر، صهر الأفراد في قضية حياة واحدة. وأبطاله هم مؤسسو حياة جديدة انطلقت بتأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي وما زالت مستمرة وستستمرّ…
أولئك الأبطال أنبياء حياة جديدة، قدّمتها مدرسة لا مثيل لها في هذا العالم، أسسها أنطون سعاده، الغني عن أيّ لقب ووصف، كوّنت من نزعات الأفراد أبطالاً عافوا متع الحياة الفردية الضحلة وانتظاراتها ورأوها اختباراً لحب من نوع آخر لحياة من نوع آخر، لموت عبور. عبور إلى الحياة..
بعد 34 سنة من عملية الويمبي 24 أيلول 1982 التي نفذها البطل خالد علوان وما تنضح من فلسفة للحياة عميقة وللموت أعمق، لم يستطع هذا الموت دفنه حتى ولن يستطيع، بعد عقود من استشهاده في 5 أيلول 1984 … تجلّى خالد أول أمس في الحمرا بوجوه الأوفياء لقضيته شاكراً مَن تذكّر رصاصاته.. وبعد تناوله فنجان قهوة حيث مرّغ أنف اليهود وعصاباتهم المتلوّنة مسوخاً هزيلة مفرّطة في لبنان ومسوخاً تكفيرية جاهلية في باقي الأمة والعالم، يعِد باختبارات جديدة وانتصارات جديدة.. لأنّ المدرسة التي تخرّج منها لم تقفل ولن تقفل…
الفداء القومي هو مدرسة الخلاص الوحيد.
باحث وناشر موقعي حرمون haramoon.org/ar والسوق alssouk