ناهض حتر.. صليب الجلجلة
نظام مارديني
من المعيب جداً الاكتفاء بهذه الإدانات والاستنكارات العديدة لاغتيال المفكر ناهض حتر، حتى وإن كانت تعبيراً صادقاً ورافضاً لهذه الجريمة الشنيعة التي وقعت على مدخل قصر العدل في العاصمة الأردنية، عمان.
أقول من المعيب لكون الشهيد حتر حمل صليب الفداء والشهادة وسار على طريق الجلجلة أكثر من ربع قرن مضى، وما كان همّه قسوة المسامير التي غرزت في جسده من السلطة والتكفيريين و«المثقفين»، وهم في الأردن يشكلون معاً وحدة حال في التحالف ضد أي تفكير نهضوي. وقد جسّد هذا التحالف وزير داخلية الأردن الذي كان قد رضخ لإرهابيي الفكر واعتقل هذا الكاتب ـ الفارس، بذريعة نشره كاريكاتوراً يسخر من «الذات الالهية»، ثم اطلق سراحه بعدما تمّ كشفه أمنياً أمام القاتل ـ التكفيري الذي كان يختبئ بحماية قصر العدل الأردني!
لعلنا نتذكّر تقريراً بريطانياً كان قد حذّر من أن المملكة الهاشمية تبدو وكأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة بعدما تمكّن البلاط من الإفادة من كل كوارث المنطقة.. الآن، تتقهقر المعونات الخليجية، وينشر الدواعش الفوضى، في حين يضغطون على مفاصل المملكة كلها.
القاتل ـ التكفيري الذي تمّت صناعته من الفكر الوهابي والاستخبارات الغربية باحترافية ومهارة، تمّ تصديره لمجتمعنا وترويج أفكاره التكفيرية ليصبح وجهًا مألوفًا، ليعمل تحت الضوء بصفات وأسماء مختلفة من خلال عبارات دينية رائجة، وأحيانًا باسم الله.
إن رمزية فصل الفكر عن الجسد في واقعة اغتيال حتر واضحة وجلية في الخطاب الدموي للإرهاب. إنه فصل فكر الحقيقة عن قاعدتها العقلية ومسخ هوية الروح أو روح الهوية، ونشر حالة الظلام أمام جذوة التنوير التي كان الشهيد يحاول أن يوسّع رقعة جغرافيتها لدى المثقف.
من هنا صار لزاماً علينا جميعاً أن نحارب هذه القوى الظلامية وحربنا معها ستكون حرب عقول وحرب أفكار، ولا بد لنا من ذبح هذا الظلام الأسود بموشور الضوء.. إن معاني الوعي متعدّدة لدى المثقف سواء أكان عضوياً أم تنويرياً أم علمانياً.
في ظروفٍ غير مؤاتية كانت تواجه حتر، أصبح الرمز قالب إبداعه، التقط الممنوع ليحوّله إلى مألوفٍ ينبض بين السطور.. فإذ تقرأ حتر يمنحك ما يبدو في النص من شحناتٍ للتمرد والرفض وطاقة للانقلاب على الواقع والنهوض لتغييره. هكذا كان مفعول كتابات حتر التي تؤسس في ما تؤسس لعصر المواطنة والحرية وحقوق الإنسان والتحرر الوطني في العالم الثالث.
كيف يمكن أن نكون طلقاء، أحراراً، والحدود بين الديني والسياسي تتّكئ على فارزة، هي نفسها موضع تساؤلٍ واستفهام؟ فالمقدّس الديني إذ تلوّثه السياسة وتجرّده من حيثياته الاعتبارية، يراد له أن يظل مقدّساً بمنأىً عن التناول والنقد والمساءلة.
وفي ظرفٍ كهذا، حيث يرقد الشهيد حتر، يَحار كل منا، نحن المُبرَّئين من متكآت وملاذات الطوائف والأديان والتابوات المتكاثرة.. يُراد لنا أن نقول كلمة أو وصفاً لمشهدٍ يبدو «تراجيدياً» و«ملهاةً».. فللضرورة في ما لا نراه نحن أحكام، وأي أحكام..!
حتر.. الأردني حتى الثمالة، والفلسطيني حتى الشهادة، وهو القائل «أخجل لأنني لست شهيداً».. كان علمانياً، ماركسياً وقومياً اجتماعياً، كان عروبياً ومحمدياً.. كان مسيحياً على خطى المعلم يسوع الذي صلبه التكفيريون اليهود، وها هو حتر يُستشهد على يد التكفيريين المحمديين.
للشهيد وسيم زين الدين: «سأحمل صليبي وأسير ونسير كلنا. كل الذين يحملون صليباً يتحمّلون آلام مساميره، لكننا لن نُهزم.. لن نتخلّى عن واجبنا.. لن نخون الرسالة ولن نموت أبداً والنصر لقضيتنا الظافرة».